Menu
in

الليبيون وتركيا وأزمة الليرة

تنطلق تركيا في علاقاتها مع دول العالم من خلال تقديم المصلحة التركية أولًا، وكل علاقاتها مع الخارج تحكمها المصالح المتبادلة والدستور والقوانين التركية وليس للأيدولوجيا أي دور في رسم هذه العلاقة، والعاطفة الدينية التركية لا تميز بين المسلم والمسلم إلا في إطار علاقته بتركيا.

الأتراك وطنيون حتى النخاع ويحبون تركيا حتى الجنون، حكومة ومعارضة وشعبا، وتكاد مواقفهم تتطابق تجاه الحفاظ على الحرية والديمقراطية والاقتصاد في بلادهم.

كانت علاقة ليبيا بتركيا علاقة قوية إبان الحكم الملكي ولكنها لم تكن كذلك بعد انقلاب سبتمبر، إذ سعت تركيا إلى إعادة رسم العلاقة، التي لم تتحسن إلا بعد أن دخلت تركيا في سنة 1974م بجيوشها إلى جزيرة قبرص، لتضع حدًّا للصرعات الدائرة هناك. واستمرت العلاقة متقلبةً إلا إنها تحسنت في السنوات الأخيرة من حكم القذافي.

تركيا ترفض الاقتتال وعلى مسافة واحدة من الجميع

بعد قيام ثورة فبراير تأخرت تركيا في الاعترافِ بالمجلس الوطني الانتقالي؛ لأنَّ موقفها كان ضدَّ اقتتالِ الليبيين؛ إضافة إلى أنها تخشى التدخلَ الأجنبيَّ في ليبيا، ثم قدَّمت مبادرةً لإنهاء الصراع، ولم يتعامل المجلس الوطني الانتقالي ولا نظام القذافي مع هذه المبادرة بإيجابية.

ثم طورت تركيا موقفها، بعد الاستخدامِ المفرط للقوة من قبل القذافي، وتدخُّلِ مجلس الأمن بقراراته.

رفضت تركيا القتالَ ما بين الليبيين في 2014م ولم تقف إلى جانب أيِّ طرف، وكان الليبيون من ضحايا الحرب من الطرفين يُعَالَجون في المستشفيات التركية سواء كانوا من جرحى فجر ليبيا أم من جرحى الكرامة، وكذلك السفارة الليبية في أنقرة لم تفرق بين الجرحى إلا في مكان العلاج منعاً للتوتر بينهما.

حتى اللحظة ما زالت الطائرات الليبية تنطلق من المنطقة الشرقية ومن المنطقة الغربية إلى تركيا، ولا تكاد تجد فيها مقعدًا، وتتباعد مواعيدُ الحصول على الحجزِ فيها لأسابيع. كما أن حركة التجارة بين تركيا والشرق والغرب الليبي كبيرة؛ حيث يقيم الليبيون من كل حدب وصوب في تركيا ولديهم مكاتب وأملاك بها، لا تفرق الحكومة التركية بينهم إلا بمدى اتباعهم للمتطلباتِ القانونية.

تركيا تربطها بليبيا علاقة عاطفية امتدت لعقود طويلة؛ وكانت بدايات كثير من الشركات التركية العملاقة اليوم بليبيا. تركيا لم تدعم أي طرف كما يشاع على حساب الأخر، ولكن العلاقات تشكلت بين الأطراف معها، طبقا لما يكنه كل طرف لها.

ففي حين كانت علاقة الود متبادلة بين تركيا والمؤتمر الوطني العام والمناهضين لعملية الكرامة، رسم تيار عملية الكرامة والمناصرين لها، علاقاتهم طبقاً لعلاقة دولة الإمارات وجمهورية مصر العربية مع تركيا، والتي تمر بتوتر كبير نتيجة رفض تركيا للانقلاب الذي حدث في مصر بتمويل إماراتي، وبالتالي أصبح تيار الكرامة رهين للموقف المصري الإماراتي في علاقته مع تركيا.

دعاوي دعم تركيا للإرهاب أو بيع السلاح لأي من الأطراف دعايات إعلامية سوداء لا يصدقها أي من الأطراف ولم تنعكس على الأرض في العلاقة مع تركيا إلا من خلال القنوات الإعلامية.

رئيس لجنة الخارجية والتعاون الدولي بمجلس النواب يوسف العقوري أكد بوضوح، خلال زيارة قام بها وفد من أعضاء مجلس النواب الليبي لتركيا في سبتمبر 2017م، حيادية الموقف التركي؛ حين قال: “إن الدولة التركية ليست داعمة للإرهاب بل تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف في ليبيا”.

الانقلاب على المسار الديمقراطي في تركيا

عانت تركيا من مسلسل الانقلابات من قبل العسكر خمس مرات، وكان في كل مرة يسقط الجيش نظام الحكم القائم ويستبدله بأخر، إلا أن العسكر في تركيا أكثر تقدما من العسكر في بلادنا إذا لم يتولَّ الحكم، بل يقوم في كل مرة بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، وهذه الانقلابات ساهمت في تخلف تركيا لعشرات السنين.

في الخامس عشر من شهر يوليو 2016 حاول العسكر إسقاط نظام حكم الرئيس رجب طيب أردوغان بل ومحاولة قتله، ولكن الشعب التركي خرج إلى الساحات والمطارات والشوارع، ودفع 251 تُركِيًّا دماءهم دفاعًا عن حريتهم وديمقراطيتهم، وأسقطوا الانقلاب، وكان للمعارضة التركية موقفٌ وطنيٌّ مشرفٌ مما سارع في إعلان فشل الانقلاب واعتقال من يقفون خلفه، وكان مِمَّن تم اعتقالهم القس الأمريكي أندرو برانسون بتهمة مساعدة منظمة إرهابية.

أزمة الليرة التركية

طبقا للعلاقة العاطفية مع تركيا انقسم الليبيون بين متعاطف معها ومتشمت بها. فهناك من وصف الأزمة التي تعانيها الليرة التركية بأنها مؤامرة أمريكية ونزّه الاقتصادَ التركيَّ القوي من أي مشاكل بنيوية. وهناك من أرجع مشاكل الليرة إلى سياسات أردوغان وإلى ضعف الاقتصاد التركي. وبالغ الفريقان في التعاطف مع تركيا أو الشماتة بها.

ولكن أزمة الليرة التركية، لا شك، تحمل في طياتها معظم هذه الأبعاد، فهناك أسباب إقتصادية وهناك أسباب سياسية للأزمة التي تعانيها الليرة التركية.

بالرغم من قوة الاقتصاد التركي إلا أن هناك مشاكل بنيوية يعاني منها تتمثل في ارتفاع ديون الشركات الخاصة، وعدم قدرتها على التوقف عن الاقتراض وحاجتها لإعادة تمويل الاقتراض، وكذلك ارتفاع الدين الخارجي، وارتفاع الواردات على حساب الصادرات مما ساهم في عجز في الميزان التجاري، وكذلك اعتماد الاقتصاد التركي على تدفق رؤوس الأموال قصيرة الأجل، والتي يتم سحبها بمجرد وجود خوف في تركيا أو في المنطقة مما يدفع بالليرة إلى انخفاض سريع ومتوالٍ .

كما تحدث البعض عن تدخل الرئيس التركي في السياسة النقدية، إلا أن تبني البنك المركزي في الآونة الأخيرة سياساتٍ عكسَ اتجاه رغبة الرئيس التركي، بَيَّنَ أن هذا التدخل غير صحيح أو أنه تم احتواؤه، فلقد قام البنك المركزي مؤخرًا برفع سعر الفائدة مخالفًا بذلك رغبة الرئيس.

وهناك بالفعل أسبابٌ سياسية؛ حيث أن تركيا تتهم واشنطن بالوقوف خلف الانقلاب الذي حصل في يوليو 2016م، دون أن تُعلن ذلك صراحة؛ فقد انتقد أردوغان موقف واشنطن وعدم تنديدها بالانقلاب، ووصف موقفها بأنه كان أدنى من المقبول.

كما أن اعتقال تركيا القس (المواطن) الأمريكي برانسون، يعد اتهامًا مبطنًا بأنها تقف وراء الانقلاب، ولم تحترم الإجراءات القضائية حسب قول الرئيس أردوغان.

ثم جاء موقف الولايات المتحدة الأمريكية في ذات السياق؛ حيث خرج نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس يوم 26 يوليو 2018م  وقال”إنه يحمل “رسالة من رئيس الولايات المتحدة” دونالد ترامب، إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته مفادها: “أطلقوا سراح القس اندرو برانسون أو انتظروا عواقب قراراتكم.”

وفي نفس اليوم قال الرئيس الاميركي في تغريدة على تويتر إن الولايات المتحدة “ستفرض عقوبات شديدة على تركيا لاعتقالها الطويل للقس اندرو برانسون، وهو مسيحي رائع ورب عائلة، إنه يعاني كثيرا هذا الإنسان المؤمن البريء ينبغي الإفراج عنه فورا”.

وبالفعل بدأت الحرب الاقتصادية على تركيا والمضاربة على الليرة وكذلك التراشق بين تركيا وأمريكا مما ساهم في انهيار الليرة واتهام تركيا لأمريكا بأنها تخوض حربًا اقتصادية مكشوفة ضد تركيا.

وقف مَن وقف مع تركيا كجزء من الصداقة أو ردًّا للجميل أو تعاطفًا لمواقف تركيا التي يراها إيجابية، كما وقف من وقف ضد تركيا عداء لأردوغان أو لتركيا أو لأنه تابع لأجندات الغير.

المؤكد أن تداخل الاقتصاد التركي والاقتصاد الإقليمي والعالمي يوحي بأن أزمة الليرة التركية إن لم يتم وقف الحرب عليها قد تُسبِّبُ أزمةً اقتصادية في المنطقة وبالذات في الاتحاد الأروبي، وبعض دول العالم ولعلى مؤشراتها قد خرجت للعيان وهذا يُفسِّر المواقفَ الإيجابية من عدد من الدول على رأسهم الصين وروسيا وألمانيا.

بقلم:  عضو المجلس الانتقالي السابق عبد الرزاق العرادي 

شبكة الرائد الإعلامية

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version