( سنعيد العراق إلى العصر الججري) هكذا صرح وزير الدفاع الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس جورج بوش الابن أثناء الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 ميلادي.
ومع ما تحمله هذه الجملة المفزعة من حقد ورعب؛ إلا أنه يبدو أنها راقت لبعض الساسة الليبيين المتصدرين للمشهد السياسي هذه الفترة ، وأيضا لبعض المتحكمين بخيوط الواقع التنفيدي بكافة أشكاله ومسمياته، وتموضوعاته واتجاه بوصلاته المتعددة والمتنوعة التجاذبات، التي ليس لها قبلة واحدة تولي وجوهها شطرها.
إن ما يقوم به المتصدرون في الواقع الليبي المرير الملتهب من أعمال يستحي منها التاريخ ويخجل، لدرجة الحيرة في انتقاء حروفها وصناعة ألفاظها، والعجز الكامل عن صياغة جملها.
ولعلهم بأفعالهم المشينة يتعمدون أن يتركوا لأحفادهم وكافة الأجيال القادمة مادة واسعة ومفتوحة للعنهم والسخط عليهم، وعلى أفعالهم تتناقلها الأجيال خلفا عن سلف .
لم يعرف تاريخ ليبيا الضاربة جذوره في عمق الزمن السحيق. خاصة مرحلة ليبيا بصورتها المعروفة حاليا، والتي كان بدايتها مع إطلالة العقد الثاني من القرن الثامن عشر، عصر حكم الأسرة القرمانلية مرورا بالعصر العثماني الثاني إلى الغزو الإيطالي، ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والعهد الملكي ثم عصر انقلاب سبتمر .
في كل مراحل هذه الاحقاب والمراحل التاريخية المتعاقة والمختلفة مرت على البلاد فترات عصيبة طالت أو قصرت، إلا أنها لم تمر بما تمر به ليبيا في هذه الفترة العصيبة – فترة ما يطلق عليها بمرحلة الثورة المضادة – التي يقودها محور التطبيع مع العدو الصهيوني المحتل للأراضي العربية. لم يكن لها مثيل ولا شبيه يقاس عليه أو يقارب منه في استثناء؛ سببه هذه الثلة التي ركبت موجة الثورة لتعتلي قمة هرم السلطة والنفوذ والجاه الطارئ عليها، ولم يكن لها في خاطر أو يكون لها في حسبان.
إن هذه الثلة الطارئة التي تحكمت في البلاد، وهيمنت على حقوق ومقدرات العباد آلت على نفسها أن تقهر المواطن وتركعه لها، وأن تمرغ أنفه في التراب بعد استحواذها على السلطة والثروة والقوة، بعد أن كانت الثروة والسلطة والسلاح بيد شخص واحد .
إن مشروع هذه الثلة هو السيطرة والسطو والنهب السريع واللامحدود وقهر الشعب وتجويعه وإخضاعه بكافة الطرق والسبل المشروعة حينا، وغير المشروعة في أغلب الأحيان .
تمثلت هذه الطرق والسبل في عدة صور، منها: إغلاق موانئ النفط، ومنع التصدير، وارتفاع سعر الدولار، وسحب السيولة النقدية ونقصها في المصارف، وعدم الحصول على المرتبات.
ومنها إشعال الحروب الداخلية تحت شعارات فضفاضة وكاذبة، “مكافة الإرهاب، تفكيك المليشيات، فرض سيطرة الدولة” أتت على الأخضر واليابس.
ومنها نقص الوقود والغاز، وأخطرها التلاعب بالأموال المخصصة لمكافحة الأمراض، وتهريب الوقود، وهبوط قيمة الدينار، و…
إن هذا المشروع الكبير والخطير الذي يستهدف ليبيا وطنا وشعبا تشرف عليه قوى دولية وإقليمية ومحلية لا هدف لها إلا إسقاط ليبيا وقهر الليبيين، وإعادتهم إلى مربع الفقر والجهل، والدكتاتورية ونظام حكم الفرد.
وأفظع صورة نجح فيها مخطط المشروع هو استخدام القوى الجديدة اللاعبة في المشهد الليبي، واستطاعت أن تحسن استخدامه بصور مباشرة أو غير مباشرة من خلال دعم عسكرة الدولة، أو إدخالها في حرب ضروس طويلة المدى، تنهك كل الأطراف، وتستنزف طاقات الشباب، وتبدد الثروات، أو من خلال تأجيج الصراع والتنافس بين الفرقاء السياسيين على مراكز القوة والنفوذ على خلفيات جهوية ومناطقية وأيدولوجية نفعية من خلال تخندق كل مسؤول في مكان وظيفته، وواقعه يقول “أنا الدولة” وكأنه دولة مستقلة لا يخضع لقانون، ولا يلتفت إلى مصلحة شعب ولا مصير وطن .
في إطار أن كل مؤسسة أو وزارة ملك للوزير أو المدير يفعل ما يشاء ويوافق على ما يشاء ويرفض ما يشاء، دون اعتبارٍ للنظم والقوانين التي تنظم علاقة الوزارة بمؤسسات الدولة، ولا اعتبار للقوانين التي تنظم صلاحيات الوزير أو لمدير، “أنا الدولة، أنا الثورة، أنا السلطة، أنا الشعب” .
كل هذه التصرفات أدخلت ليبيا إلى هذا النفق المظلم الذي تعاني منه؛ بسبب صراع هؤلاء، وأهدافهم وأطماعهم التي نقلت ليبيا من جحيم عصر الجماهير إلى أثقال العصر الحجري الذي مزق البلاد، وأنهك العباد.