لم ينعقد مؤتمر برلين حتى أضاف حفتر عقدة جديدة إلى سلسلة الأزمة الليبية الطويلة في أمدها والمتشابكة في عقدها، ويبدو أن حفتر كان يحاول اختبار جديّة المجتمعين في برلين في مسعاهم للحل السياسي، وكانت ردّة الفعل الباردة حول هذا الخطوة بمثابة ضوء أخضر لمجرم الرجمة ليستمرّ في حربه المدمّرة لليبيا في كل كياناتها إنساناً ومجتمعاً ودولةً.
حفتر الذي رقّى نفسه إلى رتبةِ “مشير” بعد أن قام بتمثلية تحرير الموانئ النفطية من عصابة (إبراهيم الجضران)، والتي كانت في حقيقتها صفقةً مع قبيلة المغاربة لتتخلّى عن ابنها “الجضران” وتمنح حفتر هذا النصر المزيف مقابل بقاء أبنائها مسيطرين على جهاز حرس المنشآت النفطية، هاهو يعيد ارتكاب نفس الجريمة مستخدِماً القبيلة ليضمن استمرار تورّط المنطقة الشرقية معه في مشروعه الفاشل الذي مات سريرياً على تخوم طرابلس، بعد أن ورّط مدينة ترهونه مع محيطها، ليحمّلها وحدها عبء الاستمرار في عملية استنزاف دم أبنائها على أسوار طرابلس دون جدوى أو معنى.
إغلاق الموانئ والحقول النفطية وإصابة هذا القطاع بالشلل شبه التام خطوة خطيرة ما كان لحفتر أن يتخذها دون التنسيق مع داعميه، فدعم هؤلاء له واستثمارهم في مشروعه سيجعلهم يتورّطون معه في أي مغامرة مهما كانت تداعياتها، وهذا ما يفسّر تعطيل فرنسا صدور بيان من الاتحاد الأوروبي يستنكر هذه الخطوة التي ستؤثر على الأوروبيين أنفسهم، حيث إن فرنسا ترى في هذا الخطوة فرصةً للحصول على دور أكبر في عملية إدارة الصراع بعد أن ظهر واضحاً عجز ألمانيا عن جسر هوّة الخلاف الإيطالي الفرنسي في برلين، كذلك فإن فرنسا ترى في إغلاق الموانئ النفطية فرصتها لمساومة حكومة الوفاق فيما يتعلّق بمذكرتيْ التفاهم التي وقّعتهما مع تركيا، والتي أتاحت لأنقرة دوراً محورياً جعل باريس عاجزةً عن تخطّيه.
أيضاً فإن النظام المصري يجد في هذه الخطوة مجالاً واسعاً للتدخّل في الأزمة الليبية التي بدأت تقلقه بعد الحضور التركي الكبير، والذي يجعل القاهرة تعيد حساباتها، خاصّةً وأن دخول حفتر إلى طرابلس أصبح حلماً بعيد المنال.
القاهرة التي احتضنت حوار توحيد المؤسسة العسكرية أصبحت على قناعة أن هذا الحوار أصبح غير مثمِر في ظلّ فشل حفتر العسكري، وباتت سيطرته على الصحراء والمناطق النائية مرهِقاً له ولداعميه الذين أصبحت فواتير المرتزقة تكلّفهم مادياً وسياسياً، لذلك فإن القاهرة تجِد في إغلاق الموانئ النفطية مدخلاً لها لتكون حاضرةً من خلاله، خاصةً وأن هذا الحضور سيخفّف من الضغط الإماراتي عليها والذي يسعى لتوريطها في تدخّلٍ عسكريٍ مباشر في ليبيا.
النظام المصري الذي ركّز في خطاباته الأخيرة على مسألة العدالة في تقسيم الموارد، واتّهم رئيسه السيسي حكومة الوفاق بـ”وجود خلل” في تقسيم موارد النفط، يبدو أنه بدأ فعلياً في محاولة الاستحواذ على المسار الاقتصادي، فقد أعلن المبعوث الأممي غسان سلامة في إحاطته الأخيرة أن القاهرة ستستضيف الحوار الاقتصادي في التاسع من فبراير القادم، وهو ما يستلزم من حكومة الوفاق والصف الوطني المدافع عن الدولية المدنية الحذر منه، وعدم الانجرار إليه ما لم يتم تحييد القطاع النفطي عن الصراع، لأن المساومة بورقة النفط النفط في المسار الاقتصادي مقابل مكاسب في المسارين السياسي والعسكري واردٌ جداً.
يدرِك حفتر جيداً أن أوراقه في اللعبة بدأت تنفذ، وأن استراتيجية الأرض المحروقة في العاصمة طرابلس باتت غير ممكنة، ولم يبقَ أمامه إلا تدمير الدولة الليبية في جانبها الاقتصادي الذي دمّر جزءاً واسعاً منه بالفعل، فإلى جانب إنفاقه أكثر من 35 مليار دينار خارج الميزانية وطباعته المليارات بشكل غير قانوني مما جعل الدين العام يصل في المنطقة الشرقية إلى 50 مليار، وسرقة أبنائه وعصابته لاحتياطات المصرف المركزي في المنطقة الشرقية، واستيلائه على إيرادات الدولة تحت ذريعة التعبئة العسكرية الشاملة ودعم المجهود الحربي، وهاهو الآن يُعمل مشارط الخراب والتدمير في شريان الاقتصاد الرئيسي “النفط”؛ ليساوم به الليبيين مقابل أن يحكمهم أو يدمّر دولتهم ويصل بها إلى حالة الإفلاس التام.