أزمة شريحة واسعة من الليبيين في مجافاة التفكير العقلاني وعدم الحكم على الأشياء بموضوعية والافتقار للاتساق في المواقف لدرجة تأرجح آرائهم حسب الانتماءات العرقية والجهوية الأيديولوجية والحزبية ووفقا للمصالح الخاصة. وأنظر كيف أن التفكير العقلاني والمواقف الوطنية تتيه اليوم في خضم النزاع الذي دخل مرحلة الفجور ويتوسل التضليل في أقبح أشكاله.
انقلاب الموازين
المثال الحي على الفرضيات السابقة هو تضييق وصف المستعمر والعدو الذي ينبغي إعلان فريضة الجهاد ضده لينطبق فقط على الأتراك ولا يتسع ليشمل الروس بتاريخهم الإلحادي والفرنسيين بإرثهم الاستعماري البغيض، وقصر مفهوم التدخل وانتهاك السيادة وخيانة الوطن إذا اقتربت أنقرة، أما إذا صالت وجالت مصر والسعودية والإمارات وانحدرت في سلوكها إلى حد التحكم في قرار عراب الاعتداء على طرابلس والتورط في جرائم حرب فالسيادة محفوظة ولا خيانة ولا هم يحزنون؟!
لقد فعل بنا العناد والكره والخصومة والجهل فعله لدرجة أننا حطمنا كل ما يمت للحكمة والاتزان الفكري والعاطفي بصلة، وتغيرت عندنا خارطة الود والنصرة ليصبح العدو التقليدي صديقا وحليفا، ومن يجمعنا بهم العقيدة والتاريخ المشترك أعداء ينبغي إعلان الجهاد المقدس ضدهم.
تدخل تركيا في ليبيا ما كان ليكون لولا سنوات الدعم الخارجي اللامحدود الذي تلقاه حفتر، وإذا كان لفرنسا وروسيا مصالح في ليبيا، فللأتراك مصالحهم أيضا،
ولا يزال العقل البسيط يُتخطَّف، وتستجاش المشاعر في اتجاه التضليل وتزييف الوقائع وبشكل سمج، فأنقرة ستعين حاكما عسكريا تركياً على طرابلس حال نزول جنودها على الأراضي الليبية، بحسب الإعلام المحرض على اجتياح طرابلس، أما روسيا بقيادة بوتين الذي لا يقبل الشراكة ولا يحترم إلا الأنداد، فسيقدم طرابلس لحفتر على طبق من ذهب ويمضي في حال سبيله؟؟!!
مقارنة مضللة
وقفت على منشور لأحدهم يتضمن مقطعين مصورين الأول لأردوغان يحاول أن يمتطي فرسا فيسقط منه، والثاني للقذافي يسابق جواده الريح، ليقول الناشر أن القذافي هو ملك “السبيب”، والثاني فارس فاشل!!
هكذا وبكل استغفال وتسطيح يضلل صاحب المنشور أصحاب العقول البسيطة ويحرفهم عن حقائق باهرة حول التحول الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري الذي كان عرابه أردوغان، والذي نقل تركيا التي تعتمد على استيراد النفط والغاز بنسبة تفوق 90% من استهلاكها إلى الترتيب السادس عشر بين أقوى اقتصادات العالم، وفي أقل من خمسة عشر عاما من حكمه، بينما حكم القذافي ليبيا الغنية بالنفط أكثر من 40 عاما وتركها فقيرة في البنية التحتية والتعليم والصحة والخدمات.
أيعقل أن يشن حفتر عدوانه على الحكومة المعترف بها دوليا ويغدر بعد الاتفاقات والمواثيق في فرنسا وإيطاليا والإمارات ويفتح الباب لكافة أوجه الدعم الأجنبي ثم يصبح استنجاد الضحية بتركيا المسلمة خيانة وانتهاك للسيادة؟!
ليت القذافي لم يحسن ركوب الخيل لكنه أبدع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي التعليم والمعرفة. ليته لم يصل ولم يجل ولم يرغد ولم يزبد ولم يتطاول ولم يعربد على القريب والبعيد، واهتم عوضا عن ذلك ببناء الإنسان والعمران في ليبيا، ولو فعل لما كنا وقعنا في مأزق الاحتراب الذي نخطب فيه ود القاصي والداني.
عنتريات أهلكت الحرث والنسل
لقد كان التدخل في الشؤون الداخلية للدول صنعة عناد القذافي، فقد قصف الخرطوم بالطيران ودعم جون قرنق الذي قاد انفصال جنوب السودان عن شماله بالمال والسلاح وتورط في حرب مع مصر وحشد الدبابات على الحدود مع الجارتين تونس والجزائر ووظف البوليساريو نكاية بالمغرب، والشرح يطول عن بغضه للخليج وآل سعود.
لقد وصل السلاح الذي دفع القذافي ثمنه من أموال الليبيين نيكاراغوا في أمريكا الجنوبية، وأيرلندا في المحيط الأطلسي، وحدث ولا حرج عن مغامراته بإفريقيا التي أنفق فيها ثروة طائلة ودفع بالجنود الليبيين في أدغالها وصحاريها، في أوغندا وتشاد، ليعودوا في توابيت أو تنهش جثثهم الحيوانات البرية، ثم يأتي أحد دهاقنة الفاتح العظيم ليحتج على تركيا التي تصنع اليوم سلاحها بعد أن اكتفت ذاتيا تقريبا من الغذاء والكساء ولوازم الحياة وليصرخ بأي حق يتدخل العثمانيون في ليبيا، وليصف الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق بالاستعمار الغاشم الواجب مقاومته!!
عقل نير وضمير يقض
والله الذي لا إله غيره لو أن الحد الأدنى من خلايا الدماغ نشطة، وقدر محدود من الضمائر حاضر لما قصر الساخطون التدخل في ليبيا على تركيا منفردة، ولو أنهم احتجوا بالحماس ذاته على تدخل فرنسا وروسيا والإمارات ومصر والسعودية والأردن والسودان لما تدخلت أنقرة وما أصبحنا على شفير حرب إقليمية واسعة وشرسة.
هل يعتقد هؤلاء أن يُقبل احتجاجهم على التدخل التركي ويكون لكلامهم أثر في نفوس العقلاء وقد هللوا للفرنسيس وطبلوا للروس أو تغافلوا عنهما؟! أما إنهم توقعوا أن يتحلى المدافعون عن طرابلس بوطنية زائفة ويرفضوا الدعم التركي لتدوسهم الأحذية الروسية وينتهك حرماتهم مرتزقة السودان وتشاد. أفلا يرشدون؟!
أيعقل أن يشن حفتر عدوانه على الحكومة المعترف بها دوليا ويغدر بعد الاتفاقات والمواثيق في فرنسا وإيطاليا والإمارات ويفتح الباب لكافة أوجه الدعم الأجنبي ثم يصبح استنجاد الضحية بتركيا المسلمة خيانة وانتهاك للسيادة؟!
تدخل تركيا في ليبيا ما كان ليكون لولا سنوات الدعم الخارجي اللامحدود الذي تلقاه حفتر، وإذا كان لفرنسا وروسيا مصالح في ليبيا، فللأتراك مصالحهم أيضا، وليس مقبولا منطقا ولا عقلا ولا سياسة أن يفتح المجال لحفتر ليستعين بالغرب والشرق وتعتبره سندا، وتمنع عن الحكومة المعترف بها والمعتدى عليها من أن يكون لها عضدها.
والحل متيسر ويكفينا عناء كل ما نواجهه اليوم من مخاطر وهو أن يعود الليبيون إلى طاولة التفاوض وبنوايا صادقة وحرص شفاف على الوطن والشعب، عندها لن يكون للجوء إلى روسيا وتركيا حاجة وعندها فقط يكون الحل ممكن والسلام والاستقرار أقرب لنا من شسع نعالنا.
الكاتب : السونسي بسيكري
المصدر : موقع عربي 21