Menu
in

موسم الأحزاب

شهدت ليبيا الأيامَ الماضية تزامناً مع ذكرى الاستقلال الإعلانَ عن تأسيس عددٍ من الأحزاب والكيانات السياسية، وقد سبق ذلك بأشهر الإعلان عن بعضها أيضاً، وقد رأينا لها نشاطات وفاعليات في ليبيا وخارجها، مع ما يتمّ تداوله من أن هناك أحزاباً وكياناتٍ أخرى سيعلن عنها مع بداية العام، كل هذا يعتبر مؤشراً إيجابياً على ارتفاع مستوى الوعي المجتمعي بدور الأحزاب في العملية السياسية، وأنها البديل الأمثل عن القبلية والجهوية والمناطقية، ودرع حصين دون اللجوء إلى الاقتتال والاحتراب لتداول السلطة بين أبناء الوطن، وأقرب الوسائل وأيسرها للمشاركة السياسية دون إقصاء أو إلغاء.

التجربة الحزبية ضعيفة ومظلومة في التاريخ السياسي الليبي؛ فقد جُمِّدت في الحقبة الملكية، ثم جُرّمت في عقود سبتمبر المظلمة، وبعد فبراير  أُسّست الأحزاب في حالة احتقان سياسي سرعان ما تحوّل إلى انسداد وجمود صاحبه صراع مسلح وضعف في المرجعية الدستورية وتنازع على الشرعية، وأنتج بالمحصّلة فشلاً سياسياً ما زلنا نحاول الخروج منه، ولا شكّ أن الأحزاب حُمّلت نصيباً كبيراً –إن لم يكن الأكبر- من جُرمِ هذا الفشل وجريرة هذا النزاع، مع أنها جميعها لم يكن لها إلا ثلث مقاعد المؤتمر الوطني ومنعت من الترشّح في مجلس النوّاب، وهذا ما جعل الوعي المجتمعي في عمومه والمترسبة فيه الصور المشوهة عن الحزبية يتأكد رفضه لها وينظر إليها على أنها شرّ مطلق، وهذا ما يفسّر أيضاً ابتعاد كثير من الأجسام السياسية عن مصطلح الحزب واختيار أسماءٍ كـ “التجمع، والتيار، والائتلاف”.

التجربة الحزبية بعد فبراير كانت قاسية وصعبة، فأحزاب كثيرة اختفت عن المشهد ولم تستطع أن يكون لها دور إلا إيصال بعض الشخصيات إلى السلطة فقط، وأخرى اختارت نهج المغالبة وارتمت عند حذاء العسكر تناصره وتستجديه فوجدت نفسها خارج المشهد فاقدة لكل رصيد سياسي، وبقي حزب العدالة والبناء يصارع في الساحة السياسية واختار نهج الحوار وتلقى ضربات موجعة من داخله وخارجه ومع ذلك نجح في أن يكون عنصر اعتدالٍ وسط العملية السياسية باستقطاباتها الحادّة وتقلباتها المفاجئة وتغيّراتها السريعة، وهو اليوم في مفترق طريق لا يُدرى ما مصيره بعد مؤتمره العام المرتقب.

ونعود إلى حديثنا عن الأجسام السياسية التي يعلن عنها، فإنها بلا شك تأتي في سياق الاستعداد إلى الانتخابات –وهذا موسمها- التي يبدو أن أجلها يقترب شيئا فشيئا، وصارت القناعة أكثر رسوخا بضرورة الممارسة السياسية من خلال الكيانات بعد التجربة المريرة والكارثية لمجلس النواب الحالي الذي تم انتخاب أعضائه كأفراد ليس لهم انتماء لأي كيان أو تيار سياسيّ يمثل مرجعية لنوابه وعامل تصحيح لممارساتهم، ولكن من خلال متابعة البيانات التأسيسية لأغلب الكيانات المعلَن عنها يمكن أن نلحظ مدى التشابه الواسع فيما بينها من حيث التأكيد على ترسيخ السيادة، وتفعيل العمل الوطني، وإرساء دولة القانون والمؤسسات، وحتمية التداول السلمي على السلطة، واحترام تنوع المكونات الوطنية والثقافية، والسعي لتأسيس دولة الحريات العامة والمواطنة، والعدالة في توزيع الثروات، ومحاربة الفساد والانتهازية، وهذه المبادئ لا خلاف عليها، والتأكيد عليها لا يعدو كونه من نافلة القول، إذ لا يتأتّى العمل الحزبي إلا بها.

ما يدعو للتساؤل هو مدى إدراك هذه الأجسام السياسية الوليدة للواقع السياسي وكيفية التعامل معه، وما هي أدواتها المتاحة لذلك؟ بعض الفاعليات والأنشطة إضافة إلى الخطاب السياسي الصادر عن بعض هذه الكيانات يشير إلى حالة ضبابية في الرؤية لديها مدفوعةً بتعجّل لاقتحام الساحة السياسية، وذلك من خلال التحشيد غير الناضج الذي ليس له هدف إلا الاستعراض والاستهلاك الإعلامي، مع خطاب سياسي ينطق بحال المواطن الغاضب الذي ضاق ذرعاً بتردّي أوضاعه مغازلاً له، دون أن يكون وراء هذا الخطاب رؤية تتماشى مع الواقع وتتناسب مع الحجم السياسي لهذه الكيانات، وما يؤكّد هذا الأمر هو الهجوم غير المبرّر على البعثة الأممية ورفضها كوسيط لحل الأزمة، واعتقاد أن ما تقدمه بعض هذه الكيانات من مقترحات هو القول الفصل الذي يرتضيه الليبيون جميعاً، إضافة إلى ذلك إصرارها على إجراء الانتخابات دون التوافق على قاعدة دستورية دائمة والرغبة في مرحلة انتقالية جديدة ومزيد من الفوضى (يمكن إسقاط هذا الكلام على ما صدر من التجمع الليبي الديمقراطي في فاعلية تجمّع القوى الوطنية بتونس).

أعتقد أن ما يتوجب على الكيانات والأجسام السياسية في هذه المرحلة هو أن تؤسس لعملية سياسية مستقرة ودائمة من خلال رفع مستوى الوعي المجتمعي وذلك بتقديمها خطاباً سياسياً متزّناً بعيداً عن استخدام العداء السياسي مشروعاً لها، والعمل مع مختلف القوى الوطنية على الوصول إلى مرجعية دستورية دائمة، وحصر التنافس السياسي في صناديق الاقتراع، ورفض منطق المغالبة والاستقواء بالعسكر، ومحاولة اكتساب مرونة الممارسة السياسية سواء في موقع السلطة أو المعارضة، إضافة إلى الحرص على بناء قواعد مجتمعية لها من خلال مساهمتها على إحياء العمل النقابي والمساهمة في النهوض بالمجتمع المدني.

لا شكّ أن الأحزاب حُمّلت نصيباً كبيراً –إن لم يكن الأكبر- من جُرمِ هذا الفشل وجريرة هذا النزاع، مع أنها جميعها لم يكن لها إلا ثلث مقاعد المؤتمر الوطني ومنعت من الترشّح في مجلس النوّاب، وهذا ما جعل الوعي المجتمعي في عمومه والمترسبة فيه الصور المشوهة عن الحزبية يتأكد رفضه لها وينظر إليها على أنها شرّ مطلق، وهذا ما يفسّر أيضاً ابتعاد كثير من الأجسام السياسية عن مصطلح الحزب واختيار أسماءٍ كـ “التجمع، والتيار، والائتلاف”.

المصدر: موقع ليبيا الخبر

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version