الاتفاق السياسي أصل الخلاف وليس السراج… شعار يخفيه تيار الفوضي!!
ونحن على مشارف انتهاء العام الثالث منذ توقيع الاتفاق السياسي، من المقبول القول إن المجلس الرئاسي المنبثق عن الاتفاق لم يكن في مستوى الاستحقاق الذي جاء لأجله، وليس غريبا أيضا لو وصفنا أعضاءه ورئيسه بالارتباك الذي كان ولا زال أكبر أسبابه الرافضين من الطرفين رغم أن قياس الفشل والنجاح يعتبر أمرا نسبيا، فربما أسهم الاتفاق السياسي رغم حدة الأزمة في إبعاد ليبيا عن أخطار كبيرة كانت ستقع لولا وجوده وهذا الجانب يقصر عن إدراكه الكثير.
ونعطي مثالا واحدا على ذلك فقبل انطلاق جولات الحوار لا يوجد اعتراف بالمؤتمر الوطني ولا حكومات الحاسي والغويل.
وكان البرلمان وحكومة الثني وجيش حفتر هم الجهات الشرعية التي تمثل ليبيا أمام العالم وحفتر بدءا بقصف بالطيران طرابلس (معيتيقة) ، مصراتة (الحديد والصلب والكلية الجوية ) زوارة، صبراته وغيرها ولولا الاتفاق ونقل الشرعية إلى العاصمة ونقل الصراع المسلح الى طاولة الحوار لكان مصير ليبيا مثل ما فعل بشار بسوريا.
ثم إن إخفاق الرئاسي لا يعني فشل الاتفاق السياسي برمته، فالرئاسي أحد مخرجات الاتفاق السياسي وهو جزء منه وليس العكس، ولو قلنا إن الاتفاق السياسي نجح في تضييق الفجوة الواسعة بين الخصوم السياسيين، وأقنع الغالبية العظمى من النخب والشارع بأن الحوار هو السبيل الوحيد لتجاوز الخلافات، ووضع إطارا عاما يرجع إليه الليبيون في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة، لو نظرنا إلى هذه الأمور وغيرها بتجرد وإنصاف لأيقنا أن الاتفاق السياسي أنقذ ليبيا من الدخول في حرب أهلية طاحنة ستأكل الأخضر واليابس.
في الوقت الذي يعجز فيه الرافضون عن تقديم أي حل واقعي أو مشروع واضح ينهض بالبلاد، ويحفظ الحقوق ويحقن الدماء، فالمطالبة برحيل حكومة السراج بحد ذاتها مطلبا مشروعا إذا كان منضبطا بإطار الاتفاق السياسي ومرجعياته، أما غير ذلك فلا تعني هذه المطالبة إلا الدعوة إلى مزيد من الفوضى التي ستوفر مناخا مناسبا وبيئة خصبة لتنامي الإرهاب وتوغل الانقلابيين والفاسدين.
والعجيب حقا أن ما طُرح من قبل هذا التيار من مبادرات بديلة للاتفاق السياسي لم تتجاوز الأهواء والمصالح الشخصية، أو سذاجة سياسية لو أحسنا الظن بهم، فبعضهم اقترح أن تسلم مقاليد البلاد إلى المحكمة العليا وإدخال المؤسسة القضائية في الصراع السياسي كمقدمة للقضاء عليها، وآخرون طالبوا برجوع المؤتمر الوطني العام، والبقية طالبوا بـ”مجلس أعلى للثوار” يقود البلاد دون أن يحدد معايير من هم الثوار أو صفاتهم.
ظاهر هذه الحلول “العدمية” التي طرحت هو بديل للمجلس الرئاسي وحكومته، لكن مضمونها في حقيقة الأمر هو إنهاء الاتفاق السياسي والقضاء عليه، فالمطالبون بهذه البدائل بذلوا قصارى جهدهم في عرقلة كل مشروع من شأنه الوصول إلى توافق يقود البلد إلى بر الأمان.
ومن الحجج التي يسوقها هذا التيار في معارضته للوفاق هو أن هذا المشروع –أي مشروع الوفاق” سيفتح الباب لوصول الانقلابيين والعسكر إلى سدة الحكم، والواقع أنهم في شراكة حقيقية مع العسكر لتطابق مواقفهم ضد الوفاق، بل إن أكبر المستفيدين من مواقفهم هم العسكر الذين يستخدمونهم من حيث لا يشعرون.
و للتدليل على هذه الشراكة ما شهدناه من اجتياح للعاصمة وتحالف لواء الصمود بقيادة بادي المحسوب على فبراير مع اللواء السابع الذي يضم الكتيبة 22 التابعة لما يعرف بالقيادة العامة.
هذا الاجتياح الذي راح ضحيته أكثر من 130 قتيلا ما هو إلا محاولة منهم لإسقاط الاتفاق بذريعة فشل الرئاسي، وللأسف سُوّق لهذه الحرب على أنها شريفة، فظاهرها البكاء على حال المواطن البسيط ودماء الشهداء، ولكن حقيقتها هي مطية لمطامعهم وطلبا لنفوذهم واستعادة لملكهم المنزوع.
هذه هي الحقيقة التي يخفيها تيار التأزيم وقياداتهم المسكونين بحب الفوضى والتي يرونها أدبيات نشأوا عليها سواء عايشوها في “تورا بورا” أو أخُذروا بأفيون شعارات العسكر والانصياع للأوامر.
إن الوفاق الوطني مشروع حياة وبناء عكس هذا التوجه الداعي للحرب والدمار، وقطار الوفاق يسع الجميع حتى العاقين المعرقلين له، ولهم أن يلتحقوا به شرط التجرد من برقع التطرّف والابتعاد عن فكرهم المشوه وعقليتهم الانقلابية الإقصائية.
أخيرا .. مشروع الوفاق جاء ليرسخ مدنية الدولة ويحفظ الحقوق وهو أكبر وأعم من الأجسام المنبثقة عنه، والوطنية ليست شعارا يقوله أحدهم وهو يلوح بسلاحه في وجه الليبيين، وثورة فبراير هي مرحلة تغيير ولا تعطي الحصانة لأحد بأن يكون وصيا على البلد وأهله أو يتحكم في مصيرهم، فالوطن لا يبنى بالفوضى والعبث، وإنما بمشروع مدني وفاقي يسع الجميع دون إقصاء أو تمييز.