Menu
in

قراءة في واقعنا


وتيرة الأحداث في بلادنا منذ 2011م تموج موج البحر لا تكاد تتوقف، إلا أنه ثمة محطات، وإن شئت أن تقول منعطفات، كان لها بالغ الأثر على سير الأحداث. وفي كل محطة من تلك المحطات تتشكل تحالفات، وتظهر قوى وتختفي أخرى. والمتأمل في مسيرة الأحداث، وخاصة بعد محطة (حرب البركان) تظهر له حقائق جلية لا تخفى على عاقل، هذه الحقائق لا يستقيم إطلاقا تجاهلها لمن يتعاطى الشأن العام.
ـ الحقيقة الأولى: معادلة الحكم في بلادنا لا تُصنع محليا، أي لا تستطيع أي جهة أو مؤسسة أو هيئة أو شخصية ليبية محلية، أن ترسم لليبيين خارطة طريق سياسية تخرج بالبلد من مأزقها، كالذهاب للإنتخابات، أو الرجوع للملكية، أو تقسيم ليبيا، أو العمل بالفيدرالية..إلخ. وهذه قضية من أوضح الواضحات، والأمر ما ترى لا ما تسمع!. فرسم السياسات العريضة أو صناعة معادلة الحكم في بلادنا أمر يختص به مجلس الأمن = الخمس الكبار، وهو أمر مُشاهد واقعا، لمن أراد أن يقرأ الواقع بعيدا عن الخيالات الحالمة. وتأمل حال بلادنا اليوم فهي في شلل تام إلى أن تأتي الإشارة من (المبعوث = ممثل الخمس الكبار). ولوضوح هذه الحقيقة فلا تحتاج إلى تفصيل أكثر.
ـ الحقيقة الثانية: في ليبيا اليوم هناك (ثلاثة مشاريع) وهي معلومة ظاهرة (البركان ـ الكرامة ـ سبتمبر) هذه المشاريع الثلاثة بها يتم صناعة (معادلة الحكم) التي أشرنا لها في الحقيقة الأولى، أي لا يمكن بحال من الأحوال أن ينفرد مشروع دون المشروعين الآخرين بإدارة حكم البلاد، والمتأمل في مخرجات (جنيف) يرى ذلك واضحا جليا، وأعضاء الحوار في جنيف = الـ 75 انقسموا في نهاية المطاف إلى هذه المشاريع الثلاثة.
هذه الحقائق سالفة الذكر ينبغي أن تُوضع في الحسبان عند تقييم الشأن العام، أو عند محاولة إيجاد حل لما تعانيه ليبيا، أما الصيحات التي تنبعث بين الفينة والأخرى، كقول القائل (لن نقبل..، ولن نرضى..، ولن نسمح بمشاركة مجرم الحرب أو اتباع النظام السابق..، ولن ..إلخ) فهي صيحات ضحاياها البسطاء والمكلومين والضعفاء وعموم الناس فقط، أما على (طاولة طريق السّكة) فالأمر مختلف تماما!.
ـ قراءة سابقة للواقع الليبي.
في الشهور الماضية هناك أطراف قسّمت الصراع في ليبيا إلى (مشروعين). مشروع (صهـ..و..ني) ومشروع آخر، وهو مشروع (الانتخابات). كما ورد بالنص (النزاع اليوم بين مشروع “صهـ..و.. ي” ينفذ رغبات الدول المطبعة مع “اس..ر..ل”. ومشروع حكومة الوحدة الوطنية التي تدعو إلى انتخابات). انتهى. قارن هذه القراءة بالحقائق التي بيّناها سالفا، سيتبين لك أنّ هذه القراءة لم تستوعب ما تقدم ذكره، بل تصطدم مع ما بيّناه في تلك الحقائق، وعلى كل حال دعونا نسلط الضوء على هذه القراءة ونقرأها من زوايا مختلفة:
أولا: سأقف على هذه الكلمات التالية (ينفذ رغبات الدول المطبعة مع “اس..ر..ل”). لنتسائل، ما هي أبرز الدول التي لها تأثير في الواقع الليبي؟ الجواب (امريكا، بريطانيا، روسيا، فرنسا، تركيا، مصر، الامارات، قطر). هناك دول أخرى لها علاقة بليبيا ولكن تأثيرها ليس كمن ذكرنا هنا (وهذه واحدة).
ثانيا: لو تأملنا في الدول التي ذكرناها، ثم تساءلنا، من هي الدول الأكثر دعما لـ (اس…ل)؟. الجواب ما سترى لا ما ستسمع:
1ـ بريطانيا: لا يختلف عاقلان في أن بريطانيا هي (المؤسس) لهذا المشروع. واعتقد أنّ هذه المسألة من أوضح الواضحات التي لا تحتاج إلى مزيد بيان أليس كذلك؟.
2ـ الإمارات: لا يختلف عاقلان أيضا في أنّ (أبوظبي) هي الأداة التنفيذية لهذا المشروع. وكل المشاريع في عالمنا العربي، بما فيها الذي في (الشرق) هو من تأسيس وتنفيذ (أبوظبي). ولا اعتقد أنّ ثم خلاف بيننا في ما تقدم أليس كذلك؟ (وهذه الثانية).
3ـ لا يختلف عاقلان أيضا في أنّ (المؤسس) و (المنفذ) للمشروع هما من أكبر الداعمين لـ (حكومة الوحدة). والدلائل أكثر من أن نحصيها عددا، وإن كنتم في شك من قولي، فمستعد أن أكتب لكم مقالا مفصلا لإثبات هذه القضية (وهذه الثالثة).
المطلوب الآن، أن نتأمل في (المُسلّمات) سالفة الذكر، ثم نتفكر أين يكون المشروع الذي قسّمنا الليبيين بسببه إلى معسكرين؟ ومن يدعمه حقيقة؟. فإن عجزنا عن فعل ما تقدم (ربما معاش نفهموا في لغة بعضنا كليبيين). فأرى أن تأخذوا هذه المُسلّمات (الأولى والثانية والثالثة) ثم اعرضوها على أي عاقل من غير الليبيين = جزائري أو يمني أو فلسطيني..إلخ. ثم اسألوه هذا السؤال (بالله يا أخ العرب، نحن الليبيون اختلفنا وما عرفناش منو اللي يدعم في المشروع (الصـ .. و.. ني) فيما بيننا، فاحكم بيينا بما أراك الله، وما يحكم به هذا الإنسان سأرضى به، ما رأيكم؟) في انتظار إجابتكم (وهذه الرابعة).
وقبل أن انتقل إلى النقطة التي تليها، أقول إنّ مشاركة المشروع الآخر، الذي يُقال عنه (مشروع صـ,,هـ ,, ني = الكرامة) نراه قائما اليوم مع (حكومة الوحدة) المدعومة من الأطراف التي ترى (تحريم وتجريم) مشاركة (مشروع الكرامة)!!. وهذه المشاركة ظاهرة وليست خفية، متمثلة في (صفقة مؤسسة النفط) و (زيارة الناظوري لطرابلس) و (زيارات عمّان وأبو ظبي والقاهرة) ولقاءات (ابراهيم وصدام) وعمل (لجنة 5 + 5)…إلخ والشواهد كثيرة ومتواثرة ومتنوعة، ومع ذلك ما سمعنا تحريما ولا رأينا تجريما.
ثانيا: أما قولهم (مشروع حكومة الوحدة الوطنية التي تدعو إلى انتخابات..). السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هنا (هل فعلا حكومة الوحدة تريد أن تنتهي بنا إلى انتخابات؟) الجواب كما ورد من نفس الأطراف بالنص أيضا (هي تقول لكم نريد أن ننتهي إلى انتخابات). أقول، الأحكام والقطع بها لا يكون بقولها بل بفعلها، لأننا لو نريد أن نقيم الأحكام بالقول والكلام فقط، فسيُقال إنّ الطرف الآخر يقول ويرفع شعار (بناء الجيش ومحاربة الإرهاب) فهل ستقبلون قوله؟ الجواب، لا، أليس كذلك؟ فلماذا تقبلون قول (هذا) وترفضون قول (ذاك)؟. وكذلك (مجلس النواب ومجلس الدولة) لا أذكر قط أنني سمعت أحدهما (يقول) نرفض الإنتخابات، بل أقوالهم وبياناتهم تؤكد باستمرار على أنهم يريدون الانتخابات، فالعدل والقسط والإنصاف يستوجب (أن نقبل كلامهم جميعا أو نرفضه جميعا) أما استثناء طرف دون الآخرين فليس من منهج (الميزان) في شئ، خاصة لمن أقامهم الله (حكما) بين النّاس. وإذا أردنا أن نبني الأحكام على الأعمال، فسنقبل حينها إذا قِيل جميعهم معرقل بلا استثناء، وحسبك أن تراجع تصريحات وزير الداخلية السابق ووزيرة العدل بحكومة الوحدة اللذان أكدا في تصريح رسمي أن (الوضع لم يعد مقبولًا في سير العملية الانتخابية بشكل طبيعي..).
هذا هو الموقف الرسمي والعملي لحكومة الوحدة، والذي تُقام عليه (الأحكام والمواقف) أما الكلام والوعود فالجميع يعد ويتكلم!.
الخلاصة والتوصيات:
1ـ هناك فرق كبير بين اجتهادات البشر وآراءهم وأفكارهم والتي يعتريها الخطأ والنسيان والجهل والهوى..إلخ، وبين كلام الله وشرعه المُحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هناك بعض الناس = العوام بشقيهم الذين ذكرناهم في مقال سابق (6)، يخلطون بين أقوال البشر وبين المُحكم، ويرون في أقوال البشر نصوصا يجب اتباعها ويحرم مخالفتها، لأنها في عقولهم (نص!) في محل النزاع، بعضهم سمعناه يقول ما تقدم بلسانه، وبعضهم يرشدك إليه حاله، وعدم القدرة على مخالفة مثل هذه الأقوال البشرية.
2ـ ما تم طرحه في هذا المقال يُظهر بجلاء لا لبس فيه أنّ (قراءة الواقع) عملية تخضع بالكامل لعقول البشر واطلاعهم ومصادر معلوماتهم، بل لا علاقة لها بإسلام المرء وإيمانه، فغير المسلم قد يقرأ الواقع بصورة أدق من المسلم، وتقارير (فريق الخبراء) التابع للبعثة شاهدة في بعض نواحيها على ذلك. الشرط الوحيد لقراءة الواقع هو اتباع (منهجية علمية منضبطة)، يُراعى فيها العدل والإنصاف وعدم الإنحياز لطرف دون آخر، ويراعى فيها تنوع مصادر المعلومة، ويراعى فيها عدم إهمال أي طرف من الأطراف التي لها علاقة بذلك الواقع أو تلك الواقعة، ويراعى فيها قبل ذلك وجود (العقل!). إذ لو غاب العقل، نوما أو سُكرا أو هوى أو (تقليدا!) فلا قيمة لكل ما تقدم، كما ذكر ابن الجوزي (فَإِن أعظم النعم عَلَى الإنسان العقل؛ لأنه الآلة فِي معرفة الإله سبحانه، والسبب الذي يتوصل به إِلَى تصديق الرسل). انتهى.
3ـ البعض يستنكر أشد الاستنكار، يكاد يصل هذا الإنكار إلى التحريم في بعض أحواله، على من ينقل رأيا أو قولا لعالم أو مفكر أو صاحب نظر من خارج البلد في نازلة من النوازل التي تنزل بنا، بحجة أنّ (واقع البلد) لا يفقهه إلا أهل البلد، أقول إنّ عدم الإحاطة بـ (الواقع) إحاطة دقيقة نتيجته أحكاما غير صائبة، سواء كان المتكلم من داخل البلد أو من خارجها، فالعبرة بـ (فقه الواقع) لا بـ (مكان المتكلم).
3ـ ما بيّناه في هذا المقال هو عبارة عن حقائق نعيشها ونلامسها ونراها رأي العين، ولسنا ملزمين بعد ذلك بترك هذا اليقين إلى قول أحد أو رأيه. بل الجميع المطلوب منه أحد أمرين لا ثالث لهما، إما أن يرجع إلى هذا الواقع الذي بيّناه في هذا المقال، وإما أن يُفنّد ما جاء في هذا المقال بـ (منهجية علمية منضبطة). أما (الإعراض) أو (التهريج) فلا سبيل لنا لمعالجتهما، ولسنا مكلفين بذلك، لا شرعا ولا منطقا ولا عقلا.
4ـ الإعراض عن (الحقائق) والصدود عنها، يورث في القلب ظلمة تكون سببا في عدم التوفيق لإصابة الحق في (نوازل) مستجدة، وهذا شيئ مُجرب، تحدث عنه العلماء كثيرا وحذروا منه.
5ـ بث الوعي ونشره في الناس واجب على كل مقتدر، لكن (الوعي) يكون بعرض الحقائق على ما هي عليه، أما ما تقوم به بعض الأطراف من انتقاص (المخالف) وتشويهه ومحاولة إسقاطه، عبر “كاريكاترات” و “بروموات” و “برامج” ساخرة، وعبر تصدير “السفهاء” ودعمهم، فهذا ليس من “الوعي” وليس من هدي (المصلحين) في شئ.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

Exit mobile version