Menu
in

قول آخر في المشروعين لا في الشخصين

صرّح فضيلة الشيخ الصادق الغرياني في حديثه الأخير بأن الصراع في ليبيا بين مشروعين، أحدهما صـهيوني يخدم محور التطبيع مع الكيـان المحتل، وآخر وطني هو الأقرب للوصول إلى الانتخابات، وأكد أن الحياد بين المشروعين هو خذلان للحق ونصرة للظالم، وتوقفٌ بين الحلال والحرام، والخبيث والطيب، ولازم كلامه أن دعم ومساندة حكومة الوحدة الوطنية هو الواجب على المسلم، وقد أورد بعض أهل العلم تساؤلات على ما ورد في كلام الشيخ -مع حفظ الأدب والتوقير له- فما كان من المتعصبين إلا مهاجمته ورميه بالتحزب واتهامه بالتشغيب وغمزه بأنه يسعى لمصالحها ومنافعه، دون أن يأتوا بجواب عما تساءل عنه زائد عن كلام الشيخ المفتي، وإني -وإن كنت لا أحب أن أخوض في الأمر- أجدني مضطرا لذلك بعد أن تأخر كثير من أهل العلم ممن لهم الأولوية والأمر آكد في حقهم، وإني أُورد في هذا المقام ما يلي:


1. مما يهوّل به الشيخ المفتي ومريدوه على من يخالفهم، أن من يخالفهم يرى أنه لا حلال ولا حرام في السياسة، وهذه مغالطة، منشؤها الخلط بين مقام الفتيا الذي هو إخبار، ومقام السياسة الذي هو تصرف، فالمفتي يخبر عن الحكم الشرعي دون إلزام، ومن يتعاطى السياسة يرعى مصالح الأمة المعتبرة شرعاً، وهو يتعاطى الأمر وفق ما يظهر له من تحقيق المصلحة المعتبرة شرعاً، ومعلوم أن هذا الأمر تدخل فيه عدة أمور هي: (دفع المفسدة، أو الموازنة بين مفسدتين وارتكاب أقلهما ضررا إن لم يكن مخرج منهما، ثم جلب المصالح، واعتبار المقاصد الشرعية في ذلك، مع اعتبار المآلات أيضاً)، ولا يخفى أن الواقع السياسي اليوم لا يخرج عن هذا، وقد قال الإمام القرافي في كتابه العظيم (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام صـ 56: القضاء يعتمد الحِجاج، والفتيا تعتمد الأدلة، وأن تصرف الإمامة [وتصرف الساسة اليوم بعض منه] الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة، وهي غير الحجة والأدلة”، انتهى وما بين معقوفين من قولي.


2. وإذا كان الأمر في هذا منحصراً في الاجتهاد لتحقيق المصلحة المعتبرة شرعا، فإن هذا الاجتهاد تختلف فيه الأنظار وادعاء الحق المطلق فيه لأحد دون أحد من التضييق والمصادرة التي لا تنبغي، وإطلاق الأحكام بالحل والحرمة ورمي الناس عن قوس الخيانة والعمالة، والتحجير على المخالف ليس إلا سبيل من ضعفت حجته، وانحصر نظره.


3. ولا يخفى على أهل العلم أن صحة الفتوى مبنية على صحة تصور المسألة أو الواقعة، فمن كان تصوره لهما معيبا أو ناقصا كانت فتياه كذلك، ولذلك يجب على المفتي أن يستحضر في المسألة أو الواقعة جوانبها كلها، ويزنها في عقله بعيدا عن تصور أو حكم مسبق.


4. وهذا ما يمكن قوله فيما صدر عن الشيخ المفتي في تصويره حكومة باشاغا بأنها مشروع صـهـيوني، فقد اجتزأ أمراً عمّمه على هذه الحكومة، وهي أن لحفتر فيها تمثيلاً وهو حليف الإمارات، وأن مصر تدعم هذه الحكومة، وهاتان الدولتان من ضمن محور التطبيع، وإن سلمنا جدلاً للشيخ بهذا التصوير، فإنه ينسحب على حكومة الدبيبة منذ تشكيلها، ففيها وزراء موالون لحفتر وهو سمّاهم، بل إن نائب الدبيبة (القطراني) أحد ممثلي حفتر في الحكومة، واجتماعه مع وزراء الحكومة الموالين لحفتر في الرجمة معلوم مشهور قريب العهد.


5. ثم إن زيارات الدبيبة المتكررة إلى الإمارات (زعيمة محور التطبيع) وعقده صفقةً مع حفتر تمّ على أساسها تعيين (بن قدارة) رجلِ الإمارات وحفتر على رأس المؤسسة الوطنية للنفط – جعل هذا حكومة الدبيبة أقرب إلى محور التطبيع.


6. أما الانتخابات، فأي المشروعين أقرب إليها؟ حكومة جاءت بتوافق مقبول بين مجلسي النواب والأعلى للدولة -اللذان لن يصدر قانون للانتخابات إلا بتوافقهما- وصدر تعديل دستوري في هذا الشأن يرسم خارطة للطريق توصل إليها، أم مشروع أخل صاحبه بعهده ألا يترشح للانتخابات، ثم وعد أنه سيجريها في شهر يونيو الماضي فأخلف وعده، ويدعو لإسقاط المجلسين، ويُمنّي الناس بالانتخابات وهو أحرص الناس ألا تعقد.
7.

هذه مقارنة بين المشروعين في النقطتين اللتين أبرزهما الشيخ المفتي، وهي تدل على أن تصور الواقع فيهما قاصر ومجتزأ، وما ترتب عليه من إنكار الحياد ووجوب الاصطفاف مع حكومة الدبيبة وتحريم دعم حكومة باشاغا لا اعتبار له.


8. ويجدر التنبيه إلى أن اعتبار حكومة باشاغا هي حكومة حفتر وإلصاق جرائم حفتر بها من المغالطة التي تنبني عليها مغالطات، أبرزها المقارنة بين فساد حفتر المعلوم وفساد الدبيبة الذي أقرّ به الشيخ المفتي وهو معلوم أيضاً، فحفتر له تمثيل في حكومة باشاغا كما له تمثيل في حكومة الدبيبة، ولو كانت حكومة باشاغا مُرضيَةً له ما عقد صفقته مع الدبيبة في أبوظبي وكانت أولى نتائجها تسليم حفتر والإمارات مؤسسة النفط.


9. ويجب التنبيه إلى أن مشروع باشاغا لم يُسقط الحقوق في الدماء والأموال لمن تعينت لهم في ذمة حفتر ومن معه، فلا أحد يملك ذلك إلا أصحاب الحق، ومن ادعى ذلك فعليه أن يبين.


10. وأختم بأن مقام الإفتاء لم يكن يوماً مقاماً للإصلاح السياسي، بل قد يكون مدخلاً لاستهانة الناس بأحكام الشريعة وانخطاط مكانتها في نفوسهم، والله المستعان.


تنبيه: هذه الكلمة غايتها بيان شيء من رأي من يخالف الشيخ المفتي وهي مختصرة لم تستوعب، وأن لمن خالفه اجتهاداً معتبراً، والله أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل.

كُتب بواسطة إبراهيم العربي

Exit mobile version