Menu
in

ثرثرة على ضفاف كلوب هاوس

في القرن الخامس عشر الميلادي، بينما كان السلطان العثماني محمد الثاني (محمد الفاتح) يحاصر القسطنطينية، وبينما كان مصير الإمبراطورية البيزنطية بأكملها على المِحك، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولًا بمناقشة أمور فقهية لا طائل منها، بادئين نقاشهم البيزنطي قبل قرابة تسعة قرون، يناقشون مثلا جنس الملائكة (أهم من الذكور أم من الإناث؟)، وحجم إبليس (هل هو كبير بحيث لا يسعه أي مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة؟)، وبينما كان الجدل محتدمًا في قاعة مجلس الشيوخ ـ رغم محاولات الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر صرفهم عن الجدل العقيم؛ من أجل مواجهة الغزاة، كان القتال يدور في شوارع بيزنطة بعد أن تمكن جنود محمد الثاني من اقتحام أسوار المدينة الحصينة، وانهارت الإمبراطورية.

خلال ما جرى وما يجري في ليبيا بعد وضع البنادق جانبا وهدوء المدافع وتوقف أزيز الطائرات بدأت الملتقيات السياسية والمؤتمرات الدولية ونقاشات النخب وغير النخب الليبية، وصادف الأمر انطلاق تطبيق “كلوب هاوس” للتواصل الاجتماعي، وهنا فتحت النقاشات على مصارعها، وبرز كل إناء بما ينضح فيه، هذا وطنيٌّ، وذاك خائن، والآخر ضعيفٌ سياسيا، والآخر داهيةٌ.

نُخب تُحلل وتناقش وتهدد وتتوعد وتدّعي الوصاية على الشعب الغلبان، نُخب تظن أنها محور الكون، وأن الكواكب تدور حولها، رغم أنها ومنذ أكثر من سنة وهي تدعي قيادة الجموع وتخطيط المستقبل وقراءة القادم إلا أنه في العادة تأتي الرياح بما لا يشتهون، ففاز الدبيبة على باشاغا في انتخابات حكومة الوحدة الوطنية، ثم مُنح الثقة، ثم حُجبت عنه الثقة، ثم صدرت قوانين الانتخابات، ثم تأجلت ثم حدث التوافق، ثم سُمي باشاغا كرئيس وزراء مُكلف، وغدا قد ينال الثقة، وبعدها قد يتسلّم دون أي حراك واضح للمعارضة من الطرفين، فيما يعيدنا الحاصِل لفكرة النقاش البيزنطي، أي أن المجريات في واد وما يحدث حقيقة في واد آخر.

في “كلوب هاوس” تعود الفكرة القديمة لما قبل ثورة فبراير حيث يتشدق المهاجرون المعارضون بعلمهم وثقافتهم وعيشهم في مجتمعات متحضرة على الليبيين القابعين تحت حكم العقيد القذافي، فيتسللون لقطات لشمام على قناة المستقلة والجزيرة، أو لحظات في مقاهي الإنترنت على مواقع المعارضة كليبيا المستقبل وغيرها، مشهد يتكرر مجددا في “كلوب هاوس” فالليبيون المحليون القابعون في الوطن الجريح يستمعون وربما نادرا ما يشاركون، بينما يتشدق الآخرون ممن يعيشون في أوروبا أو وراء الأطلنطي – مستثنيا مِن هذا من أُرْغِمَ على الهجرة من أخوتنا المهجرين؛ نتيجة الحروب والصراعات والذين يمنون النفس وينتظرون اللحظة التي يعودون فيها للوطن والمساهمة في المصالحة والبناء – أما البقية فبين مستقر في الخارج ولا يريد العودة والمساهمة في بناء الوطن ويُنّظِر على بعد أميال، وبين مبتعث لم ولن يعود في وقت قريب ويتشدق بقول “نحن هنا في أمريكا نملك كذا، وهنا في أوروبا نقوم بعمل كذا على غِرار جملة “حتى راجلي” المشهورة في ليبيا.

يتحول التطبيق العالمي الى ساحة معركة شرسة بين الليبيين، بين مؤيد ومعارض، وبين متحدث ومستمع، وتتحول الأفكار إلى أمواج عاتية، وويل وثبور لمن عارضها، أو تداخل بمداخلة عكس التيار أو مضادة لأفكار مديري الحوار، حيث نرى الديمقراطية تطبق على مضض، ويُسمع رأي المعارض – هذا إن سُمِع – ( فوق من النفس) وعلى مضض على حد قول الليبيين.

بينما تدار ندوات النقاش التي تبدأ ظُهرا، ولا تنتهي أحيانا قبل السَحَر تسير مركب السياسة والأحداث السياسية في ليبيا، فلا تقدم تلك الندوات ولا تُؤخر من الأمر شيئا، مزيدٌ من الشقاق والنزاع والفراق والخصومة دون معلومة جديدة مفيدة تذكر إلا ما قل وندر، بينما تجد معلومات من عمق الكرملين، وبين غرف البيت الأبيض دون أي مصدر أو مرجعية، وعليك أن تُصدق وتُذعن وتبني عليها الاستنتاجات، بينما تسير المجريات مجددا عكس الرسم الذي خُطِطَ له في تلك الغُرفة.

للأسف انعكست انعكاسات السياسة سلبا على المجتمع الليبي، فأصبحنا نبحث عن الخصومة قبل الوفاق، وأصبحنا نعارض تلك الفكرة؛ لأن هذا يؤيدها، إضافةً لما تفعله حواريات القنوات الفضائية من ندوب وآثار سلبية على مجتمعنا، بينما تتطور المجتمعات وتتقدم أخاف أن نُسجن خلف قضبان حوارنا البيزنطي على “كلوب هاوس”، فنضيع الوقت وتتقلص المساحات التي بإمكاننا الاتفاق فيها، ونعود لمعركة المحاور والأقطاب حتى تمر السنين ونجد الجوع والفقر والجهل يحاصر ليبيا، ونَصْحُو على مجتمع مفكك ونُخب متفرقة تناقش توافه الأمور نقاشاً بيزنطياً يطول دونما أي فائدة مرجوة، فنفقد الوطن والمجتمع، وآخر ما تبقى لنا من قيمة حتى نتلاشى ونندثر إلى غير رجعة.

أُترك رد

كُتب بواسطة Juma Mohammed

Exit mobile version