Menu
in

ماذا تريد الجماهير…؟

“كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردتها وغناءها بعد التأوه والعناء، ولكنى كم أخشاها وأتوجس منها!!إنني أحب الجموع كما أحب أبي، وأخشاها كما أخشاه.
كم هي عطوفة في لحظة السرور، فتحمل أبناءها على أعناقها..!! وكم هي قاسية في لحظة الغضب!! ” كان ما قد سلف هو نص مقتبس من فصل الفرار إلى جهنم من ثلاثية القرية القرية الأرض الأرض لمعمر القذافي، وبصرف النظر عن الكاتب وجدليته إلا أن ما كَتَب أعمق حتى من أن يوصف كاتبه بفيلسوف، كانت هذه فعلا نهاية الراحل معمر القذافي على يد ذات الجموع التي وصفها وحراكها وهيجانها بكل دقة.

سنوات قليلة مرت من عمر ثورة فبراير في ليبيا، ذلك الزلزال الكبير الذي عصف بالمنطقة، وأزاح حكم القذافي الذي تمترس لأكثر من أربعة عقود، وما أن مرت سنون قليلة حتى تبدلت الأوضاع وأصبح البطل خائنا والخائن بطلا، رفعت الجماهير -سواءاً أكانت مؤدلجة أو لا- صورة فلان، وداست وأحرقت صور آخر، تغزلت بهذا وقدحت ذاك.

تناقضات الجماهير لا يمكن للجماهير الحكم بدقة على مجريات الأمور حال وقوع الحدث بسرعة، فهي حتى الآن لم تحسم موقفها من توقيع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على اتفاقية كامب ديفيد(1978) مع الكيان الإسرائيلي هل كان انتصارا أم استسلاما؟ هل كان استرجاعا لأرض مغتصبة أم هو دق إسفين لتثبيت إسرائيل في المنطقة؟ هل كان عملا بطوليا أم أنه لا يعدوا كونه مجرد خيانة..؟
عودًا على بدء ففي ليبيا وُقِّع اتفاق الصخيرات ديسمبر 2015 بين أعضاء مجلس النواب وأعضاء المؤتمر الوطني، وعادت السلطة التنفيذية على إثره إلى طرابلس، فشل الرئاسي والحكومة ليس ذنب الاتفاق، ضعف إمكانات وقدرات الشخوص وفشلهم ليس ذنب الاتفاق، وهنا تفتح الجدلية أكان استمرار حكومة الحاسي غير المعترف بها دوليا أفضل أم الحصول على شرعية بشخصيات ضعيفة هو الأفضل؟ الجماهير التي رفضت اتفاق الصخيرات بين نائب نوري أبو سهمين ونائب عقيلة صالح رحبت بلقاء الاثنين (أبو سهمين وصالح) ووصفته بأنه حقن لدماء الليبيين، إن الجماهير التي باركت جهود الراحل محمود جبريل في المكتب التنفيذي (حكومة الحرب في ليبيا 2011) كالت له جميع التهم ووصفته بالشيطان، ومضت إلى أكثر من هذا بالتحريض على قانون العزل السياسي لإخراجه من المشهد.
يبقى السؤال الأزلي من يحرك الجماهير ومن يدير عواطفها ولماذا تحب بعنف وتكره ببغض شديد؟ الجماهير التي هي أقوى من الطوفان وتردادتها أعظم من تسونامي، الجماهير التي كانت تصف فتحي باشاغا برجل المرحلة، خرجت عن بكرة أبيها في مصراتة وطرابلس دفاعا عن باشاغا وتأييدا له عندما أوقفه السراج عن العمل احتياطيا 2020، سُعدت أي ما سَعْدٍ بخروج قائمته في انتخابات جنيف (فبراير 2021) متجاهلين تواجد اللواء أسامة جويلي معه في القائمة ومعللين هذا بتحالفه مع عقيلة صالح (رئيس مجلس النواب الليبي)، الجماهير التي دافعت وتدافع عن رئيس حكومة الوحدة الوطنية الدبيبة أصبحت تمتعض منه لورود شبهات فساد أو لتسرب خبر زيارة سرية لدولة معادية لفكر الجماهير ذاتها، تلك الجماهير التي تحلم بالسلام ولكنها ترفض المضي في طريقه تلك الجماهير المتناقضة التي ترفض الصوت المتطرف وترفض الصوت المتصالح فماذا تريد..؟

كتب المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون (1841 – 1931) في كتابه سيكولوجيا الجماهير “إن معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها” ومن هنا بالإمكان استخلاص آلية قيادة الجماهير والتي يرتكز الإعلام اليوم على أهم وأبرز أدواتها، وبالإمكان معرفة أن وهم غوبلز (وزير الإعلام في حكومة هتلر النازية) انتصر على صراحة “وينستون تشرشل” رئيس وزراء بريطانيا، ففدى النازيون هتلر ونظامه بكل ما استطاعوا من قوة، بينما خسر تشرشل الانتخابات في المملكة المتحدة لصالح “كليمت آتلي” عقب الحرب العالمية الثانية، رغم أن تشرشل قاد بريطانيا للنصر في الحرب العالمية الثانية ووصل بها إلى بر الأمان ووضعها شريكا قويا على طاولة مفاوضات يالطا لتقسيم تركة النازيين.

لعل الحملة اليوم أكثر عمقا وتفننا ضد باشاغا وزيارته الأخيرة لبنغازي والتقائه خليفة حفتر، بالرغم من أنه لا حلول واضحة وجلية أمام الطرف الرافض إلا أنه يستمر في الرفض ويعززه رغم أن بعضهم لم يشارك في الحروب ولم يتضرر منها بشكل مباشر، مع الاعتراف أن الجرح عميق، وأنه نزف بشكل كبير، لكن ترسخ القرار الجماعي للكل أنه لا مصالحة لا تراجع لا استسلام ولا عمل ولا دفاع ولا ردع أيضا، كما أنه قد يقر ويؤيد لقاء في السر وطبخة بعيدة عن عينه، ولكنه لن يؤيد الصراحة و المواجهة، فهل الرفض كان للطبخة أو للطباخ؟ ماهو دور الجماهير في المعادلة وهل فعلا هي من تصنع القادة؟ لا يمكن لعاقل متأمل مطلع أن لا يدرك أن الجماهير هي من تعزز الحدث سواء بتأييدها أو رفضها له، وأن الجموع يخشاها الكل، وأن القائد أو الزعيم بحاجة لها؛ لكي لا يشعر بالوحدة والعزلة، وأن معه لفيفاً من الأشخاص في أغلبهم دهماء وبين أواسطهم نخب، ورُغْم عدم اكتراثه برأي الآخرين في دعوته إلا أن لبيعتي العقبة الأولى والثانية وقع على مسار الدعوة والرسالة النبوية للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وما تحصل عليه من تأييد شعبي فيهما، بينما عارضت الأغلبية صلح الحديـبـية من النخب فكريا، لكنها لم تفقد ثقتها يوما بالرسول صلواته الله وسلامه عليه.

صناعة الجماهير للقادة تكمن في حبها فترضى لرضاها وتحزن لحزنها وتبارك توجهها لا شعوريا وبدون تفسير، فمكنت عبدالرحمن الداخل صقر قريش من الأندلس رغم أنه كان أضعف مما يمكن تصوره، فعرف هو من أين تؤكل الكتف ووجدت هي ضالته فيه؛ لأنها لابد أن تتمترس خلف قائد يقودها.
صناعة الزخم الجماهيري مهمة للقائد ولكنه سلاح ذو حدين، حيث إنه حين يفشل يصبح قادرا على القضاء على الزعيم إذا لم يكن على قدر المتوقع منه، فالتأييد المطلق الجارف يعني أن الزعيم قائد قادر على كل شيء على تحسين الاقتصاد وتوفير الأمن وعدم الخنوع. والركوع وإظهار هيبة الوطن في كل المحافل، لكن تمرد التضخيم هذا سيكسر الشعبية نفسها الذي سيعجز في حلحلة كثير من الملفات التي ستواجهه.

عندما وصف جو بايدن الرئيس الأمريكي أردوغان بالديكتاتور، ثم مضى لمصافحته في قمة الناتو لقيت هذه اللقطة امتعاضا أمريكيا واسعا، وانتظار أردوغان لبوتن الرئيس الروسي دقائق قبل دخول مكتبه وغيرها من البروتوكولات قد تفجر غضب الجماهير التي تود أن تراك دائما صقرا لا يهاب شيئا، بينما في واقع الأمر أنت تحكمك الرؤية والمصلحة قبل كل شيء، دخول القائد في هذه الجدليات وتماهيه مع غضب الجماهير يفقده لمرات كثيرة بوصلة الاختيار؛ لأن العقل الجمعي غير رشيد في أحسن أحواله، ولن يوصلك إلا للتردي من علياءك مهما كنت فطنا، كما أن رفضها لتصرف قد أقدم عليه القائد ليس رفضا للتصرف في حد ذاته، بل هو من دافع الحب لهذا القائد الذي لا يتمنون أن يُهان أو يُذل أو أن يظهر صاغراً.

أُترك رد

Exit mobile version