إعلان رئيس حزب العدالة والبناء السابق محمد صوان عن تأسيسه مع آخرين حزبا جديدا اختاروا له “الحزب الديمقراطي”، أثار جدلا واسعا وحظي بنقاش لم يحظَ به أي حزب آخر رغم كثرة الأحزاب التي يتم تأسيسها والتي تجاوزت أكثر من مائتي حزب حتى الآن.
الإعلان عن هذا الحزب يأتي بعد انتهاء مسيرة صوان وبعض رفاقه في حزب العدالة والبناء الذي يعتبرونه بقيادته الجديدة أصبح غير معبر عن رؤيتهم ومشروعهم السياسي، وهو ما حتّم الخروج منه والبحث عن انطلاقة جديدة تعبر عن الرؤية وتخدم المشروع، مستفيدة من التجربة السابقة وما أورثته من رصيد الخبرة وما أفادته من صوابها وخطئها، وقد عبر صوان عن ذلك في تصريح إعلامي واضح قائلا إن العشرة أعوام تعتبر رصيدا من الخبرة يمكن أن تكون انطلاقة جديدة أكثر مرونة وانفتاحا، وأنه على تواصل مع العديد من الشخصيات السياسية خلال السنوات الماضية التي أبدت إعجابا بأداء قيادة الحزب لكنها تتحفظ على الانتماء لحزب العدالة بشكله الحالي، وربما هو أحد الأسباب التي دفعت إلى تجديد الإطار والدعوة إلى تأسيس حزب جديد.
هذه الخطوة التي خطاها المؤسسون للحزب الديمقراطي جاءت بعد رحلة شاقة من العمل السياسي قاربت عشرة أعوام من مواجهة عنت الحرس القديم أن انسحبوا بهدوء مبتعدين عمن كان يجرهم إلى الخلف ويمثل طابورا خامسا داخل المؤسسة؛ وهو ما فتح عليهم من متعنتي حزبهم السابق نيران التخوين ورماهم بسهام الإنكار والتشنيع، معتبرين أن هذه الخطوة ليست من الديمقراطية في شيء، وأن من ينتسب إلى حزب أو كيان سياسي لا يليق به أن يتركه ليؤسس غيره أو ينضم إلى سواه، وألحقوا بهذه الدعوى الاتهام بحب الرئاسة والعجز عن الانفكاك عن القيادة، في تأثر واضح لهذا التيار بأدبيات الجماعات الدينية الشمولية والمنغلقة، التي لا تفرق بين الانتماء الحزبي المرن والانتماء لجماعة دينية تقوم على السمع والطاعة.
اختلاف الرؤى والنهج السياسي داخل حزب العدالة والبناء بين القيادة السابقة والقيادة الحالية للحزب واضحة لمن يتابع ويعرف الحزب جيدا، وهذه التباين ظهر مبكرا، فالقيادة الحالية لم تخف ارتباطها من البداية على التيار الإسلامي بالمعنى التقليدي وتيار دار الإفتاء بعد أن انتهجت القيادة السابقة سياسة فك الارتباط بالتيار الديني ونجحت في التحرر من قيوده إلى حد كبير على الرغم من أنها لم تسلم من اتهامها بالتخوين والتفريط في المبادئ خاصة في المحطات الهامة مثل الموقف من التشدد، والانفتاح على المخالف، الدفع لإنجاز اتفاقي الصخيرات وجنيف، وقد ظهر أول اختلاف في الموقف من قانون انتخابات الرئيس الذي طرحه مجلس النواب، حيث صرح صوان بشكل متوازن بأن القانون مقبول مضمونه ويحتاج إلى معالجة بعض الجوانب، بينما أصدر حزب العدالة والبناء بيانا رفض فيه التعاطي مع القانون؛ الأمر الذي يشي برفض الانتخابات والتعويل على رهانات أخرى، وهو موقف يتطابق مع موقف التيار المتشدد وتيار دار الإفتاء ومن يقاربها.
بالعموم فإنه لا يوجد ما يمنع من كان صاحب رؤية أو مشروع أن يسعى ليؤطر رؤيته ومشروعه في مؤسسة لها هياكلها وكوادرها الملتفة حول الرؤية نفسها والمؤمنة بالمشروع ذاته، ولا غضاضة إن كانت هذه الخطوة بعد تجربة في مؤسسة تباينت فيها الرؤى واختلف فيها النهج؛ مما جعل إطارها يضيق عن استيعاب هذا التباين والاختلاف الذي تحول من تدافع الآراء حتى تنضج، إلى تصادم الأفكار وتباعد المقاصد.
كذلك فإن التأسيس لانطلاقة جديدة تتخلص من رواسب سلوك العمل السري، وتتحرر من قيود نهج السمع والطاعة، وما ينتج عن ذلك من محاولة جرّها إلى ظل جماعة هرمت آليات عملها وضعف تأثيرها، وتسعى في نفس الوقت أن تقترب من المجتمع بخطابها ورؤيتها ومشروعها، بعيدا عن شعارات لفظَها الشارع أو كاد، إن هذا الأمر حق مشروع، بل مطلوب ممّن يرى في هذا سبيله للإصلاح، وهو ما أعلن عنه صوان في استمرار التزامه بخط الإصلاح وأن أوسع أبوابه هو العمل السياسي، والجمود على أسلوب الجماعات الشمولية والسرية فقد أصبح من الماضي بالنسبة له كما قال.
وأما الإلزام بالبقاء ضمن كيان يصادم ما استفاده من التجربة وما استقرت عليه رؤيته هو إلزام بما لا يلزم، وحَجرٌ بدعوى لا تثبت، خاصة إذا كانت الخلافات متعلقة بمنطلقات العمل السياسي بين من يتبنى الحوار وجسر الهوة دون التنازل عن مدنية وديمقراطية نظامها، وبين من ينتهج العنت والتصعيد والمعادلات الصفرية المتلبسة بشعارات الثورية والمرتهنة لإرادة وقرار جماعة ترى الحزب ملكها المقدس وأن مرجعه إليها.
ثم إن شواهد التاريخ السياسي ثرية بتجارب نتجت عن غيرها وانفصلت عنها، خاصة إذا كانت البيئة السياسية متغيرة ومتقلبة، وفي تجربة الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان الذي خرج من حزب الفضيلة ليؤسس حزب العدالة والتنمية أقرب الأمثلة على ذلك، وبالمجمل فإن السياسة لا يمكن أن تخرج عن إطار الاجتهاد البشري الذي يتغير ويتطور، وجموده وتوقفه ليس إلا دليلاً على الموت والتلاشي.
إن الانطلاقة الجديدة المتمثلة في الحزب الديمقراطي لا تبتغي الاستفادة من تجربتها السالفة فحسب، بل هي استجابة لمعادلات التغير التي تشهدها منطقتنا، والتي لن تكون ليبيا استثناء منها، واستباقا لمن يتهم هذه الانطلاقة بالتلون وتغيير الواجهة فقط، فإن هذا الانتقاد الحاد من رفاق الأمس يؤكد الاختلاف والتباين، وإن السعي في النهوض بالعمل السياسي من خلال أدواته الحقيقية “الأحزاب” هو أنجع وسائل إصلاح بيئة السياسة ومناخها، وما فائدة تراكم التجربة السياسية ما لم تطور نموذجها لتكون أقرب للناس وأقدر على المساهمة في إنتاج نظام سياسي يحقق الاستقرار وينهي الصراع.