“نحن على استعداد للعمل فورًا على زخم جديد للتعاون وتنفيذ كامل المشاريع التي حددناها اليوم”
بهذه الكلمات خاطب وزير الدفاع الإيطالي لورينزو غويريني رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج خلال استقباله بطرابلس الأربعاء، قادمًا إليها على رأس أكبر وأرفع وفد عسكري رسمي إيطالي يزور طرابلس منذ أكثر من سنتين.
مشهد قرأ فيه عديد المحللين في الصحافة الإيطالية إرهاصات سباق حثيث مع الزمن انطلق مباشرة بعد هزيمة العدوان، تريد منه روما استعادة بعض دورها وتأثيرها المفقود في ليبيا، ويدفعها التخوف من خارطة النفوذ الجديدة في المنطقة بعد قدوم الأتراك والروس، وأيضا الحاجة لتعاون الوفاق مع إيطاليا في ملفات إستراتيجية، أبرزها الطاقة والهجرة غير الشرعية، بعد أن تجاوزتها الأحداث بسبب موقفها الذي يوصف في إيطاليا نفسها بالمرتبك والمتراجع إلى الخلف خلال أكثر من عام من العدوان على طرابلس.
المشهد ومستوى الحضور يعكس هذه القراءة، فالفريق الذي رافق الوزير غويريني ضم أيضا رئيس قيادة أركان الدفاع الجنرال إنزو فيتشاريللي، ورئيس جهاز الأمن الخارجي الجنرال جاني كارفيللي، وقائد العمليات بوزارة الدفاع الجنرال لوتشيانو بورتولانو، والوزير المفوض المستشار ماسيمو ماروتي، ورئيس مكتب السياسة العسكرية الأدميرال جانفرانكو أنوتسياتا.
وحرص وزير الدفاع الإيطالي على إعلان مبادرات تعاون عسكري جديدة، أبرزها تشكيل لجنة مختلطة على المستوى الإستراتيجي للتعاون العسكري هي الأولى من نوعها، كما أعلن الوزير نية إيطاليا نقل المستشفى الميداني العسكري في مصراتة إلى منطقة أخرى لم يذكرها واكتفى بوصفها بأنها “أكثر وظيفية”، وهي خطوة تأتي بعد أيام قليلة فقط من مطالبة الأجهزة الأمنية في مصراتة الطرف الإيطالي باستصدار تأشيرات دخول مسبقة إلى ليبيا للعناصر التي يُوفدها للعمل في المرفق الصحي؛ لضبط وتنظيم التعاون في هذا المجال.
محاولات استدراك الموقف المرتبك من العدوان
مباشرة بعد تحرير ترهونة معلنة هزيمة واندحار العدوان أطلقت إيطاليا مساعي متعددة المستويات لإعادة ربط العلاقات المهزوزة مع حكومة الوفاق، فهذه الأخيرة رأت في الموقف الإيطالي الأقرب للحياد السلبي خُذلانا من حليف طالما اعتمدت عليه لضمان توازن داخل البيت الأوروبي في مواجهة الموقف الفرنسي الداعم لحفتر وحروبه، وهو ما فتح الباب لطرف جديد هو تركيا التي قدّمت لليبيين الدعم الحيوي الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه في أصعب أيام العدوان، واستحقت بجدارة وضع الحليف والصديق.
وبدأ الآن التحول الإيطالي الجديد يظهر على لسان وموقف عديد المسؤولين الإيطاليين، منهم وزير الخارجية دي مايو خلال زيارته لطرابلس في الأيام الأولى التي تلت اندحار العدوان، متحدثا لأول مرة في خطاب مسؤول رسمي إيطالي عن “إدانة الهجوم العسكري” والتذكير بأن “هناك من بدأ هجومًا كانت له عواقب وخيمة، ومن جهة أخرى هناك حكومة شرعية معترف بها من قبل الأمم المتحدة”.
وحاول دي مايو تبرير الموقف الإيطالي السابق والدفاع عنه قائلا إنه ظلّ داعما لحكومة الوفاق مستشهدا باستمرار سفارة إيطاليا في العمل من العاصمة الليبية طرابلس التي “كانت إشارة مهمة لدعم حكومة الوفاق الوطني في لحظة بالغة الصعوبة”.
كما سارعت إيطاليا بعد نهاية العدوان إلى إرسال تجهيزات فنية للمساعدة في تفكيك الألغام التي زرعتها مليشيات حفتر جنوب العاصمة، وحرصت على أن يسلّم قائدُ أركان الدفاع بنفسه المساعدات في طرابلس في حفل رسمي أحيط بدعاية إعلامية كبيرة.
زيارة قائد أركان الدفاع الإيطالي إلى طرابلس لتسليم تجهيزات تفكيك الألغام
حجر عثرة كبير في الطريق اسمه “إيريني”
وكرر قادة سياسيون معارضون وعسكريون سابقون انتقاد الخسائر الإستراتيجية الإيطالية في الساحة الليبية، آخرها تصريحات نارية صادرة عن الرئيس السابق لأركان الدفاع والمستشار العلمي لمعهد الشؤون الدولية (IAI) الجنرال فينتشنزو كامبوريني، الذي لقيت تصريحاته صدى كبيرا في الأوساط الإعلامية والسياسية، مستغربا كيف تنتظر روما أن يكون لها دور ومكانة متقدمة في المنطقة الغربية ومع الحكومة الشرعية، وهي تدعم بل وتقود عملية “إيريني” التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لمراقبة حظر توريد السلاح إلى ليبيا، لكنها انتهت إلى فرض حصار بحري انتقائي على الدعم التركي لحكومة الوفاق ضد الانقلابيين على الشرعية، في حين تبقى الحدود الشرقية البرية مع مصر مفتوحة لدعم غير محدود يتدفق برا وجوا من روسيا والإمارات ومصر وأيضا فرنسا؟!
وتستخدم “إيريني” التي بدأت في أبريل الماضي، الوسائل الجوية والأقمار الصناعية لمراقبة حركة توريد السلاح لليبيا، وتضطلع بمهمة تفتيش السفن في أعالي البحار قبالة السواحل الليبية.
وتنتقد حكومة الوفاق وتركيا بشدة عملية “إيريني”، وفضلا عن أن العملية برمتها هي مبادرة أوروبية خالصة، ولا تحظى بأي تغطية رسمية أو شرعية قانونية صريحة من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ـ فهي أيضا تفضي إلى دعم الطرف المعتدي وشل جهود إبعاد خطره ومنع الحكومة الشرعية من بسط سيطرتها على كامل تراب البلاد، وانضمت الولايات المتحدة الأمريكية للموقف التركي الليبي، وقالت قبل أيام في تقييمها لمشروع الأوروبيين إن “عمليات الحظر الوحيدة التي يقومون بها تستهدف معدات عسكرية تركية، وتفتقد للجدية”.
وبسبب “إيريني” تجد إيطاليا نفسها متعثرة أكثر من غيرها في تطبيع علاقتها كما تريد مع الوفاق، باعتبار دورها الريادي المتقدم في قيادة عملية “إيريني” وحجم مساهمتها اللوجستية فيها ودعمها السياسي غير المحدود للعملية في هياكل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل السياسة الإيطالية على الأرض مصطفّةً مع الجهة المناهضة لحكومة الوفاق ومناقضةً لمساعيها لفتح صفحة جديدة معها.
بوابة العودة: البعثة العسكرية في ليبيا
وصوّت البرلمان الإيطالي نهاية الشهر الماضي لصالح تجديد تمويل البعثة العسكرية الإيطالية في ليبيا، التي تريدها إيطاليا منطلقا لبعث علاقات التعاون الفاترة واستدراك ما فات مند أبريل 2019، ورغم أن البعثة العسكرية الإيطالية تدخل عامها الرابع في ليبيا إلا أن مجالات عملها ظلت محصورة في المجال الصحي من خلال المستشفى الميداني في مصراتة ونقل حالات حرجة للعلاج في إيطاليا، وبعض الدورات التدريبية والتجهيزات الفنية لخفر السواحل الليبي لمساعدته في مكافحة الهجرة غير الشرعية.
وظلت مجالات التحرك العديدة للبعثة العسكرية معطّلة، رغم أنها شملت كل الفرص التي يمكن أن تساهم في تعزيز ودعم القدرات الأمنية والعسكرية الليبية وبسط سيادة الدولة على ترابها عبر حكومتها الشرعية، من تدريب وتجهيز وبنية تحتية ودعم فني متعدد الأوجه.
هذه الحصيلة الهزيلة مقارنة بالطموحات والخيارات المتاحة في نص الاتفاقية الرسمية لعمل البعثة العسكرية ـ تؤكد الاتهامات الموجهة للحكومة الإيطالية بالتراجع عن التزاماتها السابقة متأثرة بتذبذب موقفها السياسي من حكومة الوفاق.