فرضت الطبيعة على الإنسان البدائي حين كان يهيم على وجهه في البراري، حماية جسده من عوارض الطبيعة، فهو الكائن الوحيد الذي لا يمتلك وسائل طبيعية فعالة لمواجهة الحر والبرد وباقي الأخطار المؤذية، بينما منحت الطبيعة الكائنات الأخرى الجلد السميك والفراء والريش والحوافر الصلبة، فقام بتغطية باطن قدميه بأوراق النباتات، ثم استخدم جلود صيده من الحيونات، من هنا كانت البدايات الأولى للنعل أو شبشب الصبع، ولما وجد أن النعل وحده لايكفي للوقاية من البرد، قام بتغطية باقي القدم حتى الكعبين فولد الخف أو مانسميه اليوم “الكندرة”، وبحكم وظيفته، فإن رحلة شبشب الصبع وتطوره عبر القرون هي تفصيل صغير من رحلة الحذاء عبر الزمن.
تطورت الأحذية مع صعود الإنسان في سلم الحضارة، وظهرت صناعة الأحذية في كل الحضارات القديمة، من الصين إلى حضارات الهنود الحمر في المكسيك. الكشوف الأثرية أثبتت أن الحضارة المصرية القديمة بلغت شأوا عظيما في صناعة الأحذية والتفنن في تزيينها بالأصباغ والمعادن الثمينة، وعثر في مقبرة توت غنخ أمون على أزواج من الأحذية بينها شبشب صبع بشكله الحالي أي حرف Y مقلوب، وجاء في القرآن الكريم الأمر الإلهي للنبي موسى عليه السلام “إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى “، ما يؤكد استخدام الإنسان للنعال منذ آلاف السنين. وعادة خلع الأحذية خارج المنازل ودور العبادة ما تزال سائدة لدى شعوب آسيا، فالحذاء ينتمي للشارع والحفاظ على النظافة يستلزم تركه خارجا، والاستعاضة عنه بنعال خاصة للاستخدام داخل البيوت. وأثبت العلم صحة هذه العادة في وقاية البيوت من بكتيريا ضارة تعلق بالأحذية من ملوثاث الشوارع. وتتشارك الشعوب العربية فى التشاؤم من الحذاء المقلوب، وتعتبره نذير مصيبة، ولابد أن يبادر أحد إلى تعديله.
عرفه العرب منذ أقدم العصور؛ لأنه ملائم لطقس الصحراء، قال الجاحظ في البيان والتبيين: العرب تلهج بذكر النعال والفرس تلهج بذكر الخفاف، وترد في كتب التراث الكثير من الأشعار والقصص والمأثورات عن النعل، ومن أشهرها قصة تخلي الحارث بن عباد عن حياده ومشاركته في حرب البسوس عقب قتل المهلهل لبجير بن الحارث، وقد ظن أن مقتله سينهي الحرب ويحقن الدماء، لكنه انفجر غضبا وقرر الثأر لولده ولكرامته لما بلغه أن المهلهل قتله نظير شسع نعل كليب، والشسع هو الخيط الذي يشد متن النعل إلى الأصابع، وقال في قصيدته الشهيرة(قربا مربط النعامة مني):
قتلوه بشسع نعل كليب…إن قتل الكريم بالشسع غال
وفي الأدب والفن المعاصرين حضر الحذاء في الكثير من الأعمال الأدبية والفنية، بل لعب دور البطولة في بعضها، في لوحة “حذاء” للفنان الهولندي فان غوخ تحول حذاء مهترئ أنهكته الخطوات والطرقات إلى لوحة فائقة الجمال أثارت سجالا فلسفيا بين فلاسفة كبار، وفي السينما العربية غنى الفنان عبدالعزيز محمود “ياشبشب الهنا” في فيلم “منديل الحلو” بطولة تحية كاريوكا عام 1949، وإلى عالم الفيديوكليب دخل الشبشب من أوسع أبواب الابتذال مع أغنية سما المصري “أحمد الشبشب ضاع”، ولا أنصح بمشاهدته.
كل الشواهد التاريخية تؤكد ابتكار الشعوب والحضارات لشبشب الصبع مع انقطاع التواصل بينها، ما يؤكد وحدة الشبشب البشري، وهو من المقتنيات القليلة التي رافقت الإنسان منذ عصر الكهوف، وفي القرون الوسيطة وماتلاها تطورت الأحذية وتنوع استخدامها حسب المهن والمناسبات، ولم تعد مجرد تلبية لحاجة فرضتها الطبيعة، وإنما أضحت مؤشرا على الغنى والفقر والانتماء الطبقي والموضة السائدة، ورمزا للغياب الأبدي، إذ تصف أزواج أحذية الجنود القتلى في الحدائق والساحات مع بطاقة تحمل اسم الجندي وصورته وباقي بياناته الشخصية.
غير أن ماطرأ من تغيرات على الحذاء لا ينطبق على شبشب الصبع، فقد بقي هيكله الأصلي بدون تغيير تقريبا، وما أضيف له لايعدو غرض الزينة وتحسين المظهر.
اكتشاف اللدائن والمطاط الصناعي ساهم في توسع صناعته وزيادة انتشاره ورخص سعره. جلبه التجار الليبيون من الصين أوائل الستينات وأقبل عليه الناس من كل الفئات، وعرف باسم شبشب النايلو؛ لتمييزه عن شبشب الجلد. لم يتحدد استعماله في قضاء حوائج محددة، بل كان الناس رجالا ونساء يرتادون به المناسبات الاجتماعية، قبل أن يفقد بعض وجاهته وينحصر استخدامه في المنزل، وفي أوقات تتحرر فيها الأقدام من سجن الأحذية ذات الطابع الرسمي. ووفقا لعادة ليبية أصيلة في استخدام المنتج الواحد لتأدية عدة أغراض، استخدم كوسيلة تربوية فعالة لتأديب الأطفال إذا خالفوا الأوامر أو تقاعسوا عن أداء الواجبات المدرسية، ثم استخدم كسلاح تقليدي في الشجار داخل الأسرة أو المعارك الكبرى بين الجيران، وكان من مزاياه توليد الألم من دون ترك أثر، وفي خيم الأفراح استخدمه الصبية في لعبة السلطان والوزير والمجرم.
وظفه القذافي سياسيا للتعبير عن احتقاره لليبيين، بقطعه البث المعتاد للتلفزيون المحلي ووضع صورة النعل على الشاشة في وجه المشاهدين لمدة تقارب الساعة. يظهر نعل القذافي حين يصدر عن البرامج مايخالف رؤيته عن المجتمع الجماهيري السعيد، آخر ظهور له جاء مباشرة عقب حديث للاعب في المنتخب الليبي لكرة القدم في سهرة رياضية، أخذه الحماس فانتقد ضعف البنية التحتية الرياضية في ليبيا مقارنة بالملاعب الضخمة والحديثة في دول الجوار.
يعد رفع الحذاء مقابل الوجه دلالة على الاستخفاف وتعمد الإهانة في ثقافات أغلب الشعوب، لكن الشعب الأمريكي لايرى هذه الدلالة، لذلك تم تنبيه جنود الجيش الأمريكي في المستعمرات إلى تجنب رفع الأرجل في وجوه السكان المحليين، فيما يمثل تقبيل الأحذية وتبجيلها علامة على التذلل والخضوع، وتتكثف هذه العلامة بالترحيب بحكم العسكر ورفض مابشر به الربيع العربي من حريات، إذ راجت صور تبجيل الحذاء العسكري في بعض دول الربيع العربي برفع الحذاء فوق الرؤوس وغمره بالقبل وتجميله بالورود. في مدخل مدينة اللاذقية انتصبت منحوتة ضخمة لحذاء عسكري مع خوذة ورصاصة، وكتبت صحيفة موالية لعصابة الحكم في دمشق “تعلموا الشرف من هذا الحذاء العسكري، لتعرفوا أن البوط العسكري شرفنا وكرامتنا ولولاه لا وجود لنا”.
وعلى نفس المسار جرى الترويج الدعائي الممنهج لحفتر كمؤسس لجيش سيعيد للبلاد هبية مفقودة ويقضي على الإرهاب، وكلها كانت أقنعة تخفي الوجه الحقيقي لعصابة يقودها عجوز مجنون بالسلطة، وإزاء تصدي ثوار فبراير لهم وإحباط مؤامراتهم، اعتمدوا في دعايتهم شبشب الصبع علامة تمييز بين القوات الملتزمة بالحذاء العسكري تحت قيادة حفتر، مقابل انتعال قوات خصومه شباشب الصبع، كدليل على انفلاتها وعدم انضباطها. وانتشرت الصورتين المتناقضتين جنبا إلى جنب على وسائل الإعلام، لتوجيه المتلقي نحو اختيار الحذاء المنضبط ونبذ شبشب الصبع المنفلت، وقادت منابر إعلامية موالية للحذاء حملات منظمة أبرزت فيها مشاهد تدريب واستعراض لجنود بالقيافة والتجهيزات الميدانية مع تركيز على الأحذية العسكرية الخشنة، مقابل صور ومشاهد متنوعة لشباب ينظمون حركة المرور في البوابات أو يقاتلون في جبهات المعارك وهم ينتعلون شباشب الصبع.
وامتد الجدل إلى الحوار عبر الفضائيات، وخاض أنصار أحذية حفتر معاركهم مع خصومه، بتسفيه القوات المناهضة له ووصمها بشباشب الصبع كدليل على طابعها المليشياوي. وقد صرخ أحدهم بحدة لما سأله المذيع عن فرص تسوية الخلاف بالحوار فقاطعه بسؤال استنكاري: حوار مع من؟ مع مليشيات شباشب الصبع؟
يهبط مستوى تقييم الالتزام للمقاتلين من المألوف، أي السلوك العملي ومدى تطبيق القوانين واللوائح وقواعد الاشتباك، إلى مستوي طبقات الأحذية. فيتراجع الاهتمام بالانتهاكات والجرائم المروعة أمام طغيان إيحاء الصورة التي تروجها الوسائط الإعلامية عن اختلاف النعال، بتكريس صورة نمطية عن انضباط أحذية جيش حفتر، مقابل تهور شبشب الصبع على الجانب الآخر، وهكذا يتم حرف النظر عن الطابع الإجرامي الوحشي للقوات المعتدية، وعن الحقل الذي ينبغي أن يقع فيه التقييم.
لاتقع هذه المقارنة مطلقا في الظروف الاعتيادية حين تلتزم الجيوش بوظيفتها التقليدية ولا تسعى لاغتصاب السلطة، حيث تكرم الشعوب جيش بلادها وتعلي من شأنه، وتخلد القادة والشهداء والمعارك بالنصب التذكارية، وتحيي الذكرى السنوية للبطولات والانتصارات. غير أنها لا تكرس الجيش صنما غير قابل للنقد والمحاسبة، فهي تقف بحزم إذا وقع منه تجاوز يمس سمعة الوطن ومكانته، حتى لو كان هذا التجاوز ضد الأعداء في الحروب، فالجيش مؤسسة عامة يحدد القانون مهامها، ومن غير المقبول السماح لها بتجاوز هذه المهام. وإزاء تغوله على مؤسسات الدولة أو محاولته الاستيلاء على مراكز القيادة السياسية، تنهض الشعوب الحرة لمواجهة هذا الجنوح بالنزول للشوارع والميادين تعبيرا عن رفضها، فالمؤسسة العسكرية لاتصلح للحكم والقيادة، تماما مثلما لا تصلح مؤسسة الدفاع المدني المناط بها معالجة الحرائق والكوارث الطبيعية تولي أمور التعليم.
في حروب كثيرة غير تقليدية عبر العالم، ظهر المقاتلون وهم حفاة أو بنعال خفيفة لا تختلف عن شبشب الصبع، في الحرب الأهلية بأنغولا كان أغلب مقاتلو حركة يونيتا حفاة، وفي معارك الرقة ضد داعش كانت قوات سوريا الديمقراطية تشكو من سرعة تلف الأحذية مع تغير موقع الجبهة على أرض غير مستوية، مادفعهم لاستخدام شبشب بلاستيكي يسمى محليا شحاطة، وفي الحرب الأهلية الإسبانية تنوعت أحذية المقاتلين المناهضين للجنرال فرانكو؛ لأنهم ليسوا جيشا، وإنما مناضلون من دول عديدة ضد فاشية العسكر.
يميز الجنرال الأمريكي جورج باتون (1885_1945) بين الجندي والمحارب من خلال الحذاء إذ يرى أن “جنديا يرتدي حذاء هو مجرد جندي، لكنه مع حذاء الماتشو فهو محارب”، والماتشو هو كل حذاء يتميز بالخفة والمرونة يلائم ساحات القتال أكثر من أحذية الاستعراضات العسكرية ذات الرقبة الطويلة، ويفضله المحاربون؛ لأنه يوفر للقدم الراحة ومرونة الحركة مع سهولة التخلص منه إذا تطلب الموقف.
كذلك القوات التي تصدت لحفتر لم يعنها من الأحذية سوى ما يمكنها من القتال بفعالية، ولم يزعموا أنهم بديل عن الجيش، ومن تطلعاتهم أن يبنى الجيش كمؤسسة مهنية تلزم مهامها المنظمة بالدستور، لا عصابات تتنكر بقناع الجيش، وبعد إلحاق الهزيمة بها وتبديد أوهامها في الحكم بالقوة وبالتواطؤ مع قوى إقليمية ودولية مناهضة للحرية والتغيير، سيبقى بركان الغضب على استعداد لقذف حمم شبشب الصبع في وجه أحذية البغي والطغيان حتى تسلم بهزيمتها وتلزم معسكراتها وثكناتها وتلتفت لمهامها وتنسى السياسة وشؤون الحكم، وتتوقف عن محاولة سحق تطلعات الشعب في حكم مدني ديمقراطي مثل كل الشعوب الحرة.