توصف الحرب الدائرة في ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011 بأنها حرب ذات طبيعة معقدة؛ نظرا للتداخلات المحلية والإقليمية والدولية التي تنطوي على رقعة فسيفسائية متشابكة من نسيج المصالح والأمن، والتي تتقاطع مع أيديولوجيات متضاربة ومتنافسة في إطار صراع النفوذ الجيواستراتيجي شرق البحر الأبيض المتوسط.
لكن الحقيقة أن معادلة الحرب في ليبيا تقوم على سردية بسيطة تتحكم في منطق حرب الوكالة، وهي أن تحقيق المصالح في ليبيا التي تتوافر على أكبر احتياطي للنفط في أفريقيا؛ يتطلب وجود دكتاتور يقوم بتأمين مصالح الدول الإقليمية والدولية، دون الدخول في تعقيدات لعبة الديمقراطية والتعددية والمساءلة والشفافية.
وقد وجدت معظم الدول ضالتها في اللواء المتقاعد خليفة حفتر، حيث دعمت بطرائق متعددة هجومه العسكري على حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس، في نيسان/ أبريل 2019.
ويستند الفريق الواسع الذي يدعم حفتر على تفضيله الدكتاتورية على الديمقراطية في المنطقة من جهة، وكراهيته العميقة للإسلام السياسي من جهة أخرى، في سياق توسيع جبهة ما يسمى “الحرب على الإرهاب”.
كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أجرى مكالمة هاتفية مع حفتر عشية هجومه على طرابلس، اعتبرت مباركة لعملية حفتر وداعميه من حلف الإمبرياليات الكولونيالية التقليدية بقيادة فرنسا، ومن الحلف الدكتاتوري العربي أمثال مصر والإمارات والسعودية.
لكن معادلة الصراع والحرب في ليبيا شهدت تحولات كبرى خلال الأسابيع الأخيرة عقب تدخل تركيا لصالح حكومة الوفاق، والذي تزامن مع زيادة انخراط روسيا في الصراع، والذي أدى لتغير موقف الولايات المتحدة تجاه الصراع، حيث اختلت ديناميكيات الحروب بالوكالة وفرضت وقائع عسكرية جديدة على الأرض. فقد كان موقف الولايات المتحدة بشأن ليبيا يتسم بالتناقض والارتباك، وبقيت الولايات المتحدة إلى حد بعيد على الهامش في الجهود العسكرية والدبلوماسية.
تحولات الموقف الأمريكي تدرجت مع زيادة تطلعات روسيا لتوسيع نفوذها في ليبيا والبحر المتوسط وأفريقيا، بلغت حد التوصل إلى اتفاقات بين الرئيسين، التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الأمريكي، دونالد ترامب، حيث قال أردوغان في الثامن من حزيران/ يونيو الجاري، إنه بحث مع ترامب الصراع في ليبيا، واتفقا على بعض القضايا المتعلقة بالملف. وأشار أردوغان، خلال لقاء مع قناة “TRT” الحكومية التركية، إلى أن “حقبة جديدة بين البلدين ستبدأ عقب المكالمة مع ترامب”، وأن الأخير أخبره بأن وضع أنقرة في ليبيا “ناجح”.
تدرجت تحولات الموقف الأمريكي، منذ أيار/ مايو الماضي، إذ قالت مندوبة واشنطن إلى الأمم المتحدة، كيلي كرافت، في 19 من الشهر نفسه، إن بلادها تدعو إلى انسحاب “مرتزقة فاغنر” التي تقاتل إلى جانب حفتر من ليبيا، وترفض هجوم الأخير على العاصمة طرابلس.
سبقت ذلك تصريحات لسفير واشنطن في ليبيا، ريتشارد نورلاند، في 17 أيار/ مايو الماضي، والذي قال: إن تحركات “فاغنر ومعداتها المتطورة في ليبيا لا تدل على احترام سيادتها وسلامتها”.
وعلقت القيادة الأمريكية في أفريقيا بالقول: “بينما تواصل روسيا تأييدها لتأجيج لهيب الصراع في ليبيا، فإن الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا من أكبر اهتماماتنا”. وأعلنت أنها قد تنشر “لواء من القوات الأمنية المساندة” في تونس.
وفي الوقت الذي بقي البيت الأبيض فيه على الهامش في معظم الأحيان، معتبراً أن النزاع يشكل مصدر قلق أمني لأوروبا، إلا أن الكونجرس كان لديه اهتمام في ليبيا، بالإضافة إلى الرغبة في إيجاد موقف سياسي أكثر وضوحاً، لا سيما من خلال “قانون الاستقرار الليبي” لدى كلا الحزبين، ونظراً لهذه التحولات الأخيرة في الحرب الأهلية الليبية، والتواجد المتزايد لروسيا في شمال أفريقيا، وضغوط الكونجرس، فإن الولايات المتحدة قد لا تبقى على هامش هذا الصراع لفترة أطول.
لا جدال في أن التدخل التركي قلب معادلة الحرب في ليبيا، منذ أن دخلت تركيا بقوة أكبر في الصراع الليبي في كانون ثاني/ يناير الماضي، بعد التوقيع على اتفاقيات بشأن الحقوق البحرية والدعم الأمني في تشرين الثاني/ نوفمبر2019. فخلال بضعة أسابيع انهارت قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ودب الصراع داخل معسكر داعميه الإقليميين والدوليين. إذ تمكنت قوات حكومة الوفاق الوطني من استعادة السيطرة على مدينة طرابلس بالكامل، والقواعد الجوية الرئيسية، والمدن الاستراتيجية على امتداد الخط الساحلي، كما استعادت سيطرتها على قاعدة الوطية الجوية، بالقرب من الحدود التونسية، واستولت على مدينة ترهونة، على بعد 40 ميلاً جنوبي طرابلس، والتي تشكل أهمية استراتيجية لقوات حفتر؛ كونها خط الإمداد الرئيسي من قاعدة الجفرة الجوية في وسط ليبيا إلى غرب ليبيا، وصولا إلى بدء عملية عسكرية تستهدف تحرير مدينة سرت.
على تخوم سرت تبدأ الصفقات من جديد بين تركيا وروسيا، فحسب فيرجيني كولومبير، المتخصصة في شؤون ليبيا بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، “نحن الآن في وضع تشعر فيه كل من موسكو وأنقرة بأن هناك فرصة متجددة لهما للعب دور دبلوماسي أكثر أهمية”.
ويعزز هذا القول، ما اعتبره طارق المجيريسي، المتخصص الليبي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، “خطاً أحمر وضعه الروس وأبلغوا به تركيا”، حول الذهاب إلى الجفرة، حيث قام الروس بإيواء عشرات الطائرات الحربية وكذلك أفراد مجموعة “فاغنر” المرتبطة بالكرملين، حسب صحيفة “الإندبندنت”؛ لذلك نقل أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسي للحكومة الليبية، عن مسؤولين روس عقب زيارته لموسكو، مؤخرا قولهم إن “سرت خط أحمر”، ما أشعل غضبا واسعا في المنطقة الغربية، وأمر فائز السراج، بعدها باستمرار عملية تحرير المدينة.
لطالما كان واضحا أن ليبيا تحولت من ثورة تنشد الحرية والعدالة والكرامة إلى نزاع داخلي مسلح بفعل قوى الثورة المضادة، وصولا إلى دخولها في أفق الصراع الدولي، الذي تصاعد مع احتدام حرب الوكالة، ولا شك أن تنامي الحضور الروسي سوف يدفع أمريكا إلى مزيد من الانخراط في ليبيا، الأمر الذي سيغير من قواعد اللعبة، ولذلك فإن قوات حفتر التي كانت تحاصر طرابلس باتت في سباق مع الزمن لتحسين شروط التفاوض؛ ذلك أن مسألة الحسم العسكري لم تعد تنطوي على قدر من المعقولية والموضوعية، فالإشارات الأمريكية باتت واضحة لروسيا، وحفتر لم يعد يملك سوى الرطانة البلاغية، شأنه شأن دكتاتور مماثل اسمه الأسد.
خلاصة القول أن الاصطفافات في حرب الوكالة المندلعة في ليبيا بالغة البساطة في أهدافها ومراميها؛ ذلك أن قوى الثورة المضادة في العالم العربي التي تدعم قوات حفتر، مسندة من أطراف دولية تشاركها منظوراتها وتصوراتها لمستقبل المنطقة، مثل مصر والإمارات والسعودية وأمريكا وروسيا وفرنسا، تشترك في تفضيلها الأنظمة الدكتاتورية على الديمقراطية في المنطقة من جهة، ومسكونة بكراهية عميقة للإسلام السياسي من جهة أخرى، في إطار توسيع جبهة ما يسمى “الحرب على الإرهاب”، لكن أمريكا المترددة والمرتبكة في ليبيا والمنطقة تعاني من عقدة أكبر تتمثل بالخوف من النفوذ الروسي الحاضر دوما في عقيدة الأمن القومي، وحلف شمال الأطلسي، الأمر الذي خلط التحالفات وبدد التوقعات.
وبهذا فإن مسار الاستقرار وإحلال السلام في ليبيا لا يزال بعيدا، بانتظار صفقات بين تركيا وروسيا بصورة أساسية، وبقية أطراف الصراع الأخرى، لكن المؤكد أن مغامرة حفتر كدكتاتور مفضل وقوي أصبحت من الماضي.
المصدر: عربي 21