ثمّة أكثر من سؤال مثير في ثنايا الجغرافيا السياسية العربية المتقلّبة، عندما يتزامن حدثان بارزان في أقلّ من ثمان وأربعين ساعة في نهاية أبريل/ نيسان: أوّلهما، إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن ممارسة “حكم ذاتي” في عدن، وقلب الطاولة على الحكومة الشرعية بإلغاء اتفاق الرياض الموقّع في نوفمبر/ تشرين الثاني، والذي يدعو إلى توحيد قوات المجلس مع قوات حكومة عبد ربّه منصور هادي التي ترعاها السعودية.
وهو ما يمثّل تهديدا إضافيا لوساطة الأمم المتحدة وتقويضا ضمنيا لاتفاق استوكهولم المبرم بين حكومة الشرعية وجماعة أنصار الله (الحوثيين) قبل 29 شهرا.
وثاني الحدثين، دعوة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر للحصول على “تفويض” من الشعب الليبي لإدارة البلاد، وإعلانه إلغاء اتفاق الصخيرات الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة عام 2015، الأمر الذي اعتبرته حكومة الوفاق الوطني في طرابلس “مسرحية هزلية”، وأن “المتمرّد يعلن عن انقلاب جديد يضاف إلى سلسلة انقلاباته التي بدأت منذ سنوات”.
هما تحوّلان استراتيجيان في عزّ المخاوف الصحية العالمية لجائحة كورونا، وفي الأسبوع الأول من رمضان المبارك. وينطوي كلّ منهما على بعد افتعالي خارجي أكثر من حدّة الخلافات الداخلية بين الأطراف اليمنية والليبية، وكيف تتحرّك موازين القوة وفقا لخطط بعض القوى الإقليمية، وفي مقدّمتها الإمارات التي تكرّس ضربا انتهازيا من الواقعية السياسية، ينمّ عن منطق القوة العسكرية وتجاهل الاتفاقات الدولية ومساعي الأمم المتحدة لإيجاد حلول تقبلها كل الأطراف في الأزمتين، اليمنية والليبية. ويبدو أنّ الإمارات تسارع الزمن من أجل بسط نفوذها في جنوب اليمن وموانئها، خصوصا عدن وسقطرى، من أجل إنشاء تعزيز تجارتها
“خطوة حفتر تتعارض مع قرار مجلس الأمن بوقف دائم لإطلاق النار في ليبيا، واستمرار حظر استيراد الأسلحة إليها من الخارج”البحرية وتوسيع نطاق تأثيرها في منطقة البحر الأحمر. وتأمل، في الوقت نفسه، في الاستثمار السياسي والمالي في ليبيا الغنية بثروتها النفطية وموقعها الاستراتيجي على البحر المتوسط، من خلال دعم الجنرال حفتر بموازاة التنافس مع تركيا التي تدعم حكومة الوفاق في طرابلس بقيادة فايز السّراج.
عند المقارنة من حيث السّياق والديناميات والمآل بين تحوّلات اليمن وليبيا، يبدو أنّ الإعلان الأحادي للجنرال حفتر بشأن عزمه فرض سلطته بالأمر الواقع تحت شعار “التفويض الشعبي” على طريقة عبد الفتاح السيسي في مصر 2013، ينطوي على مضاعفاتٍ أكثر حدّة، ويجسد ثالث أزمة شرعية في ليبيا خلال ستّ سنوات، وهي أزمةٌ مفتوحة، يعتبر الأمين العام للأمم المتحدة القتال فيها “حربا بالوكالة”. ويمكن تفكيك هذ الأزمة الثالثة بعد تأمل التعقيدات والتداخلات بين تزايد التنافس الداخلي بين معسكري طبرق وطرابلس، وتأثير الأدوار الخارجية التي نصّبت نفسها وصيّة على أحد المعسكرين المتناحرين. ويزداد سؤال المرحلة إلحاحا: من سيحمي اتفاق الصخيرات مستقبلا، وسط خلاف الدول العظمى في مجلس الأمن على تعيين رمضان لعمامرة، خلفا لغسان سلامة، بعد أن اقترح عليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس شخصيا يوم السابع من مارس/ آذار الماضي تقلد منصب الممثل الخاص ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا؟
ذاتية الجنرال قبل إرادة البرلمان
تكشف المفارقة الأولى في دعوة حفتر إلى الحصول على “تفويض شعبي”، وتلويحه بأنّ “جيشه” الليبي “فخور بأن يُفوّض بهذه المهمة التاريخية” لقيادة ليبيا، عن مزايدةٍ عبثيةٍ، تحاول أن تستبدل صناديق الاقتراع بصناديق الذخيرة وسط استمرار مسلسل التناحر المسلح، واعتداده
“حفتر يضع في حسابه أهمية الدعم الخارجي من الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا أكثر من الاكتراث بإرادة مجلس طبرق” بقوة الجيش الليبي الذي سعى، منذ بدء “عملية الكرامة”، إلى دحر الجماعات المتشددة، وبسط السيطرة على العاصمة طرابلس، وانتزاعها من الحكومة التي يعترف بها المجتمع الدولي. وتتعارض خطوة حفتر أيضا مع فحوى أحدث قرار تمّ التصويت عليه في مجلس الأمن قبل شهرين ونصف الشهر، ويدعو إلى التزام جميع الأطراف بوقف دائم لإطلاق النار في ليبيا، واستمرار حظر استيراد الأسلحة إليها من الخارج، وبتأييد أربعة أصوات وامتناع روسيا عن التصويت.
تكمن المفارقة الثانية في تنامي اعتداد حفتر بذاته وقوة رجاله المسلّحين أكثر من الولاء أو المسؤولية أمام أعضاء مجلس النواب في طبرق، حيث عيّنه رئيس المجلس، عقيلة صالح، قائدًا للقوات المسلحة الليبية في الثاني من مارس/ آذار 2015. ويبدو أن حفتر يضع في حسابه أهمية الدعم الخارجي الذي يتلقاه من الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا أكثر من الاكتراث بإرادة مجلس تشريعي في الشرق، تم تأسيسه عقب انتخابات يونيو/ حزيران عام 2014 التي لم تتجاوز نسبة الإقبال فيها 18%، فتعمّد الجنرال حفتر في أثناء إلقاء الخطاب أمام الكاميرا الظهور ببذلة عسكرية بيضاء، ويتعهد بأن قواته ستعمل على “تهيئة الظروف الضرورية لبناء مؤسسات دولة مدنية دائمة”. ولكنّه لم يوضح ما إذا كان أعضاء مجلس النواب في طبرق يزكّون هذه الخطوة، خصوصا إذا أُخذ بالاعتبار أن رئيس المجلس عقيلة صالح دعا، قبل أسبوع من خطاب حفتر، إلى تشكيل مجلس رئاسي بالتوافق أو التصويت بين ممثلي أقاليم ليبيا وبإشراف الأمم المتحدة ضمن خطة جديدة أسماها “خريطة الطريق”، من أجل إنهاء الأزمة وإيجاد سبيل للتقارب بين جيش حفتر وحكومة الوفاق بقيادة فايز السراج. ودعا
ظهو حفتر ببذلة عسكرية بيضاء، وتعهد بأن قواته ستعمل على “تهيئة الظروف الضرورية لبناء مؤسسات دولة مدنية دائمة”صالح أيضا إلى تشكيل لجنة يتم تشكيلها من الخبراء والمثقفين لصياغة دستور ليبي جديد، يتم بعده تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية. هنا لبّ المفارقة الثالثة عند تأمل الفرق الشاسع بين منطق صنع السلام بإرادة وطنية، كما يأمل رئيس البرلمان عقيلة صالح، ومنطق فرض الأمر الواقع الذي ينحو إليه الجنرال حفتر. وعلى هديه، يضعف الأمل في تلويح حفتر بالانتقال حقيقة إلى بناء “مؤسسات دولة مدنية دائمة”.
في المقابل، ترفض حكومة الوفاق وبقية الهيئات السياسية في طرابلس إعلان حفتر إسقاط اتفاق الصخيرات، وتعتبر أمرا كهذا “عبثا” بمصير البلاد، وأنّ حفتر “انقلب حتى على الأجسام السياسية الموازية التي تدعمه، والتي في يوم ما عينته، وبذلك لم يعد في مقدور أحد أو أي دولة التبجّح بشرعيته بأي حجة كانت”، في إشارة إلى البرلمان المنتخب في طبرق، والذي دعت أعضاءه إلى “الالتحاق بزملائهم في طرابلس، لنبدأ الحوار الشامل ويستمر المسار الديمقراطي وصولا إلى حلّ دائم عبر صناديق الاقتراع”. غير أنّ رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، خالد المشري، قال إن حكومة الوفاق نظمت صفوفها أكثر بعد توقيع الاتفاقية العسكرية مع تركيا منذ شهور، وأنّ قواتها أصبحت لديها القدرة على الهجوم وليس الدفاع فقط، قائلا “لا نخشى أي مرتزقة يحضرهم حفتر، وسنعيدهم إلى بلدانهم في توابيت”.
وسط هذه المواقف والتحرّكات الميدانية، أصبحت السجالات السياسية وعدم مراعاة الهدنة الإنسانية تتحرّك على أرضية هشة، بعد تشديد حكومة الوفاق على ضرورة استتباب “هدنة حقيقية”، والحاجة لوجود “ضمانات دولية” لتفعيل عمل “لجنة 5 + 5” (خمسة أعضاء من قوات حفتر ومثلهم من قوات حكومة الوفاق) التي انبثقت من اجتماع برلين في فبراير/ شباط
الماضي، على أمل التوصل لوقف دائم لإطلاق النار بين معسكري الشرق والغرب في ليبيا. ولكن الخلافات القائمة بينهم حالت دون استمرار جلسات اللجنة التي علّقت أعمالها عقب جولتين من المحادثات، وتجدّد القتال في ترهونة على بعد ستين كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من العاصمة طرابلس، حيث تحاصر قوات الوفاق مسلحي حفتر في الأيام الثلاثة الأولى من مايو/ أيار الحالي.
خطوة حفتر خارج الرادار العالمي
وفي موسكو التي استضافت اجتماع القادة الليبيين، بحضور وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو، وكاد أن يكلّل باتفاق بين الأطراف، لولا انسحاب حفتر في 13 من يناير/ كانون الثاني الماضي، صرّح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إنّ بلاده لم تقبل بيان فايز السراج رفض التعامل مع حفتر، ولا البيان الذي سيقرّر المارشال حفتر من جانب واحد به الطريقة التي يعيش بها الشّعب الليبي. وشدّد لافروف على أنّ “أيّا من هذه العوامل لا يساعد في إيجاد تسوية مستقرّة، والتي بدونها يظلّ من المستحيل الخروج من هذه الأزمة”. ورفضت السفارة الأميركية في ليبيا ما وصفته “اقتراح حفتر”. وشدّدت على أنّ “التغييرات في الهيكل السياسي الليبي لا يمكن فرضها من خلال إعلان أحادي الجانب”، بيد أنّها رحبت بأي فرصة لإشراك حفتر، وجميع الأطراف، في حوار جاد حول كيفية حلحلة الأزمة وإحراز تقدّم في البلاد.
وفي أنقرة التي تعدّ الغريم السياسي الرئيسي للإمارات في دعم طرفي الصراع، اتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، هامي أكسوي، أبوظبي باتباع سياسات “مدمرة” و”ذات وجهين” في المنطقة، ودعاها إلى وقف “موقفها العدائي” إزاء بلاده. وقال إن الإمارات تدعم “الانقلابيين” في ليبيا، في إشارة إلى “الجيش الوطني الليبي”، بتزويدهم بالأسلحة والمرتزقة. ودعا الدولة الخليجية إلى “وقف تمويل القوى ضد السلام والأمن والاستقرار الدولي” في مناطق مثل اليمن وسورية والقرن الأفريقي. وقد توصّل فريق الخبراء في الأمم المتحدة، في تقريرهم الصادر قبل أربعة أشهر، إلى أنّ من يقرب عددهم بين ألف وثلاثة آلاف من المقاتلين السودانيين موجودون في ليبيا، وهي سمة جديدة في الصراع الليبي، من شأنها أن تزيد في عدم الاستقرار في البلاد. وقبل أيام، تناقلت الوكالات الإخبارية وصول وفد إماراتي إلى السودان، لحشد مزيد من الدعم وتوظيف مرتزقة جدد للقتال في صف قوات حفتر. وناقش الوفد الذي ترأسه مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد، مع المسؤولين في الخرطوم سبل تأييد حفتر في ضوء التعثر الذي يعايشه “الجيش الليبي”.
في الوقت ذاته، تبدي ألمانيا راعية اجتماع برلين التخوف من عزم حفتر القضاء على اتفاق تقاسم السلطة. وتتمسّك بأنه لن يمكن التوصل إلى حل للصراع في ليبيا بالعمليات العسكرية أو الإعلانات أحادية الجانب، بل من خلال عملية سياسية تشارك فيها جميع المناطق والفئات العرقية الليبية. وفي بروكسل، شدّد المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي لشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، بيتر ستانو، على أن “أي محاولة للدفع بحل من جانب واحد إلى الأمام، حتى باستخدام مزيد من بالقوة، لن توفر أبداً حلاً مستدامًا للبلاد.” وأوضح أن اتفاق الصخيرات لعام 2015 “يظل الإطار العملي للحل السياسي في ليبيا حتى يتم إدخال تعديلات أو إيجاد بدائل”.
وعلى الرغم من التقارب بين الموقفين، الفرنسي والإماراتي، من الأزمة الليبية، عبّرت باريس عن رفضها خطوة حفتر، وشددت على أن “الصراع في ليبيا لا يمكن حله من خلال القرارات المنفردة، وإنما من خلال حوار تدعمه الأمم المتحدة”.
وذكّرت الإمارات بقلقها مجدّدا من التدخل التركي في ليبيا، واتهمت أنقرة بنشر المقاتلين وتهريب الأسلحة. وعبرت عن رفضها “القاطع للدور العسكري التركي الذي يعرقل فرص وقف إطلاق النار، ويجهض جهود المجتمع الدولي للتوصل إلى حل سياسي شامل”، حسب بيان وزارة الخارجية في أبوظبي.
من يحافظ على اتفاق الصخيرات؟
بمنطق الخطوات المتدرجة في صنع السلام، يبدو أن الخطوة الجديدة لحفتر قد تعصف حتى بمسارات التفاوض الفرعية، بما فيها مسارات برلين، وقبل موسكو وباريس وباليرمو وأبوظبي، مرجعيات جديدة كانت تلوّح بها الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا وإيطاليا ضمن مواجهة استراتيجية محتدمة ضد محور طرابلس – أنقرة الذي يعتد باتفاقهما الجديد مع الاحتفاظ بأهمية اتفاق الصخيرات التي تزكّيه الأمم المتحدة.
ومنذ مطلع عام 2020 وانهيار مسار جنيف الذي كان مرتقبا قبل شهرين، اتضح خطّا التوازي بين الصراع الداخلي بين حفتر والسراج أو معسكري طبرق وطرابلس، والصراع الخارجي الذي تتموقع من خلاله الإمارات وتركيا على أنهما “الوصيّان الممتازان” أو “فوق العادة” super guardians على ليبيا.
ويبدو أن هذا الاستقطاب السياسي والعسكري من قوى إقليمية جعل مبعوث الأمم المتحدة السابق، غسان سلامة، ووزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، على قناعةٍ بأن ديناميات الفعل السياسي والعسكري، أو القوة الصلبة، تظل في يد محورين رئيسيين يمكن أن نسمّيهما “المحور الإماراتي” مقابل “المحور التركي”.
لم يصل مسار جنيف حتى إلى عقد جلسة واحدة بعدما كان الأمل في استعادة زمام المبادرة الدبلوماسية إلى الأمم المتحدة، بدلا من مسارات العواصم المختلفة. ولكن الصراع يتفاقم حاليا ليس بما يفكر فيه حفتر فحسب، بل وأيضا بتكابر الدول ذات الحلم في استغلال ليبيا نفطيا واستراتيجيا بموازاة دول جنوب أوروبا وسط معركة موازية هي معركة غاز شرق المتوسط. وقد سعت تركيا، باتفاقها الجديد مع فايز السراج، إلى ترجيح كفتها، أمام الاتفاق الجديد الموقع في يناير/ كانون الثاني الماضي بين اليونان وقبرص وإسرائيل مدّ خط أنابيب الغاز المعروف باسم “إيست ميد” بطول 1900 كيلومتر لنقل الغاز الطبيعي من منطقة شرق البحر المتوسط إلى أوروبا. في الوقت ذاته، تظهر أكثر من عقدة منشار في الدبلوماسية الدولية إزاء الأزمة الليبية:
أوّلها، اعتراض بعض العواصم، وفي مقدمتها واشنطن، على تعيين وزير الخارجية الجزائري السابق رمضان لعمامرة ليحل محل غسان سلامة، ينطوي على مراعاة بعض المصالح عند تقاطع ما هو أميركي مع ما هو خليجي أكثر من عزم الأمم المتحدة على تسوية الأزمة. ويعني استبعاد لعمامرة من تمثيل الأمين العام غوتيريس قطع الطريق على وساطة دبلوماسي محنّك من بلد يحظى بسجل متميز في الوساطات الدولية منذ الستينيات. ولا غرابة أن تكون هناك اعتبارات غير معلنة لرفض لعمامرة الذي كان مندوب بلاده في الأمم المتحدة ثم سفيرا في واشنطن خلال حقبة التسعينيات.
ثانيا، تلويح حفتر بالتفويض الشعبي يزيد في تفتّت الشّرعية السياسية في ليبيا للمرة الثالثة خلال السنوات الماضية، بعد أن أدّى اعتراف الأمم المتحدة بحكومة الوفاق إلى تقويض شرعية مجلس النواب في طبرق والحكومة الموالية له في البيضا. وعلى النسق ذاته، دحض تشكيل مجلس النواب في طبرق، عقب انتخابات يونيو 2014، الشرعية التي كانت للمؤتمر الوطني العام الذي تم انتخابه في السابع من يوليو/ تموز 2012 وتسلم السلطة من المجلس الوطني الانتقالي في الشهر الموالي. وبعد خمس سنوات من تلاطم أو صدام الشرعيات، لا يزال مجلس النواب وحكومة الوفاق خاملين وغير فعالين في ترسيخ تقارب عملي وبنيات سلمية بين الشرق والغرب، لتجاوز تسع سنوات من انقسام ليبيا، على الرغم من تصريحات عقيلة صالح وفايز السراج. هي متتاليات سياسية تمنح مؤسسات أو أشخاصا معينين “ملكية” شرعية غير مستقرّة. وكما قال الفيلسوف الإغريقي أرسطو قديما “شرعية الحكومة المعتمدة على الدستورانية
(التوافق على حكم الدستور) والموافقة. لكنها تفترض أيضًا أن الاستقرار السياسي يعتمد على شرعية المكافآت”.
في الوقت ذاته، يبقى حلم الليبيين بعيد المنال، كما يقول أحدهم “أنا مواطن ليبي لا مع الإخوان ولا المقاتلة ولا ماركس ولا هيغل ولا جوز الهند، فقط مع وطن مستقر موحد مستقل، تتعزّز فيه قيم المواطنة والحريات والديمقراطية وفن إدارة الاختلاف والتنوع الخلاق والتداول السلمي للسلطة وباقي المنتجات التي تناسب العصر”.
عقدة المنشار الثالثة التي تزداد صعوبة الحسم فيها حاليا أكثر من أي وقت سابق هي منع استيراد الأسلحة والآليات الحربية من مصادر متعددة وبتمويل خارجي.
هذا رهان مفتوح أمام الأمم المتحدة منذ قرار مجلس الأمن 1970 الذي اتخذه عام 2011 للعمل على تسوية الأزمة في ليبيا.
عندما كنت أعمل ضمن لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، كان التحقق من تسريب تلك الأسلحة ومن يسهّل وصولها من بين المهام الرئيسية خلال إعداد التقارير نصف السنوية والسنوية. وتبين أكثر من مرّة أن تعهد كل الدول المعنية باحترام إرادة الأمم المتحدة لا يحدّ واقعيا من انتشار الأسلحة وتدفق أصناف معينة منها إلى داخل ليبيا. وما لم تتوقف إمدادات الأسلحة وتوظيف المقاتلين الأجانب، لن تخرج الأزمة الليبية من انحسارها الدبلوماسي وتنهي انفصام شخصية زعمائها بين التلويح بالخيار الدبلوماسي خلال جلسات التفاوض في العواصم البعيدة والاعتداد بالقوة العسكرية الميدانية في الداخل والتعويل على الدعم الخارجي من الشرق، وتلك عقدة المنشار الرئيسية.