Menu
in

ليبيا وصراع المحاور

البيان الخماسي الأخير الرافض لمذكرتي التفاهم بين ليبيا وتركيا أكّد مرةً أخرى أن الصراع في ليبيا هو جزء من صراع كبير في المنطقة، يهدف إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ الدولية فيها، وما سيترتب على ذلك من تغيّر في التحالفات وفق معادلات المصالح الجديدة وما يتبع ذلك كله من بروز أدوار إقليمية لم تكن موجودةً سابقاً، ولعلّ هذا ما يحثّني على إعادة استقراء السياقات الزمنية لتشكل هذه التحالفات والمحاور.

حالة التغيّر في المنطقة بدأت بشكلٍ واضحٍ وجليّ إبّان الموجة الارتدادية للربيع العربي الذي كانت ليبيا إحدى دُوَلِه، هذه الموجة الارتدادية التي كانت نتائجها واضحة في مصر بإعادة إنتاج الدولة العسكرية القمعية في أعتى صورها، وفي اليمن بالعدوان العسكري المباشر من التحالف السعودي الإماراتي، وفي سوريا بتفكيك المعارضة وتغذية الجماعات الإرهابية، وكانت نتائج هذه الموجة في تونس أقل بسبب المرونة العالية التي تحلّت بها حركة النهضة أكبر التيارات السياسية صعوداً بعد الربيع العربي، إضافة إلى عقلانية طيف عريض من التيار المنافس للنهضة والتزامه بالإطار الوطني للتنافس السياسي، وفوق كل ذلك التزام الجيش التونسي بالنأي عن ميدان السياسة واحترام إرادة التونسيين.

ليبيا أيضاً لم تكن استثناءً من تجريفات الموجة الارتدادية على ربيعها العربي، فبرز فيها مشروع الكرامة، الذي سبقته محاولات دعمت أجساماً وكياناتٍ سياسية لم تستطع الخروج عن إطار العملية السياسية، ومثّل مشروع الكرامة جرثومة الاستبداد التي كمُنت في جسد الدولة، وواتتها الظروف أن تبقى وتستمرّ بسبب العملية السياسية الهشّة التي عجزت عن إنجاز استحقاقاتها وأبرزُها الدستور، ومع ذلك فشلت عملية الكرامة في بسط سيطرتها على المشهد بالكامل، لسببين:
الأول: أن ثورة فبراير مسلّحة وكثير من ثوّارها لا يمكن أن يقبلوا بعودة الاستبداد ودولة العسكر، وهذا ما مثّل العقبة الكأداء أمام مليشيات الكرامة التي ادّعت أنها نواة للجيش، بينما كانت الدولة العميقة في ليبيا غائبة تماما على عكس ما حدث في مصر.
ثانياً: استطاع الجناح السياسي المعتدل من تيار فبراير أن يجاريَ العملية السياسية التي تمثلت في حوار الصخيرات، وأعاد الدولة إلى العاصمة طرابلس بعد أن اختُطفت إلى طبرق، وهو ما وازن المشهد، وانخفضت به وتيرة الصراع المسلح، وأصبحت العملية السياسية متصدّرة للمشهد إلى أن انقلب عليها حفتر مرة أخرى في 4 أبريل 2019، ليعود الصراع المسلح مرةً أخرى أشدّ وبأدوار إقليمية أكثر وضوحاً وصراحة.

من قدر ليبيا أن يصاحب التغيير فيها هذا التغيّر في المنطقة، وهو ما جعلها ساحة لصراع إقليميّ بين محور الاستبداد العربي (الإمارات ومصر والسعودية)، إضافة إلى الدول المقاولة في جرائمه (الأردن والسودان)، وبين الدول المجابهة لمدّ هذا التيار الاستبدادي (تركيا، وقطر)، والتزاماً بالواقعية، فكما أن دول محور الاستبداد العربي تسعى لإفشال أي نموذج ديمقراطي قد ينتجه الربيع العربي حرصاً على استقرار أنظمتها، وتقدِّمُ هذا المشروع تحت بند الخضوع المطلق للهيمنة الأمريكية وتغيير وجهة الصراع العربي بعيداً عن العدوّ التقليدي (الكيان الصهيوني)، فإن الدول الداعمة للربيع العربي ترى في دعمها له تنامياً لدورها الإقليمي، وتوسعة لنفوذها، كما أن تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو 2016 أصبحت مدركة أن سياسة النأي بالنفس غير مجدية، وأن خلق تحالف إقليمي ضد هذا المحور هو الاستراتيجية الأفضل لمجابهته.

هذا التغيّر في الإستراتيجية التركية ومواتاة الظروف جعلها اليوم الحليف الأبرز لحكومة الوفاق، خاصة أن مذكرة التفاهم المتعلقة بمناطق الصلاحية البحرية مثّلت متنفساً هاماً لتركيا، وقطعت الطريق أمام حصارها بتحالف “منتدى شرق المتوسّط”، وهذا ما يجعل تركيا اليوم حريصةً على إبعاد محور الاستبداد عن ليبيا؛ حفاظاً على هذا المكتسب الإستراتيجي.

وإذا كان صراع المحاور واقعاً في ليبيا لا يمكن تجاوزه بسبب الضعف في الأجسام السياسية وحالة الانقسام الحاد الذي تعانيه الدولة في أغلب مؤسساتها مع غياب الإطار الدستوري المتفق عليه، فإن الاستفادة من حالة الصراع الإقليمي وتوظيفها لخدمة المشروع الوطني هو الخيار الأفضل والمتاح حالياً، ونحن إن نظرنا إلى محور الاستبداد والتطبيع العربي فإنه يريد فرض مشروعه في ليبيا من خلال تمكين “حفتر” من مقاليد الحكم وإعادة إنتاج الدولة القمعية المُتّبِعة لأوامر أبوظبي، بينما يتحرك المحور الداعم للربيع العربي من خلال مقاربة تحافظ على تطلعات شعوب المنطقة وتحترم شرعيتها وهو ما يجعل التحالف معه أكثر قابلية للديمومة والنجاح.

ولا يعني هذا بحالٍ أن يُهمِل المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الانفتاح بسياسة خارجية قادرة على صياغة مصالح مشتركة مع عمقها الأقليمي خاصةً الأوروبي والمغاربي، وهذا يستوجب قبل كلّ شيء إصلاحاً حكومياً شاملاً يعزّز الثقة فيها كطرف يمكن التحالف معه، وبناء شراكات من شأنها أن تقوّض من حالة الصراع الإقليمي داخل ليبيا، ولنكونَ أكثر واقعية؛ فإن الإصلاح المنشود في المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق لن يحدث مادام هذا المجلس مطمئناً إلى حصانة الأمر الواقع التي توفرها له حالة العجز في السلطة التشريعية وبخاصة مجلس النواب، وأعتقد أن الضغط الشعبي متمثلاً في الفاعليات المدنية والكيانات السياسية ينبغي أن يتوجه نحو السلطة التشريعية لتكسر حالة الارتهان للأمر الواقع وتهيئ المناخ للعملية السياسية التي من المفترض أن تعقب دحر العدوان.

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version