أحدثت العملية العسكرية الجديدة التي أطلقتها حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليا، والتي أطلقت عليها “عاصفة السلام”، بدءا من يوم 26 مارس الماضي اختراقا مهما للمشهد العسكري والاستراتيجي، حيث تحاصر قواتها حاليا (أثناء كتابة هذا المقال) مدينة ترهونة تمهيدا لتحرير قاعدة الوطية العسكرية بعد أن تمكنت من تحرير ثماني مدن في الساحل الغربي قبل أيام، بينها صبراتة وصرمان والجميل، وصولا إلى معبر رأس جدير الحدودي التونسي، وهي المدن التي سبق لقوات حفتر احتلالها أواخر العام 2016 كرد فعل لإجهاض نتائج اتفاق الصخيرات الذي وضع حلا سياسيا للأزمة الليبية، وانبثقت عنه حكومة الوفاق الحالية.
الانتصارات العسكرية الأخيرة ضد قوات حفتر المدعوم من مصر والإمارات وفرنسا ودول أخرى، كانت الأهم بالنسبة لحكومة الوفاق على مدار السنوات القليلة الماضية.
وقد كان صمود العاصمة طرابلس في وجه الغزوة الحفترية على مدى أكثر من عام عاملا مهما في الوصول إلى هذه النتائج، حيث كان فشل حفتر في اقتحام العاصمة رغم كل ما يمتلكه من ترسانات أسلحة ترد إليه برا من مصر، وبحرا وجوا من فرنسا والإمارات، سببا رئيسيا لتراجع معنويات قواته التي كانت قد أعدت نفسها لحرب خاطفة في بضع أيام أو حتى بضع أسابيع، فإذ بهم يجدون أنفسهم قد تجاوزوا العام دون أن يتمكنوا من تحقيق هدفهم الذي وعدوا به أنصارهم سواء في ليبيا أو خارجها، وبدأ الملل يتسرب إليهم، في الوقت الذي حصلت فيه قوات الوفاق على شحنات معنوية جديدة مع وصول المساعدات العسكرية التركية، وخاصة طائرات الاستطلاع بدون طيار “البيرقدار” والتي كان لها دور كبير في المعارك الأخيرة.
بهذه المناسبة، يجدر التذكير بأن المساعدات التركية لقوات الوفاق انطلقت بالأساس من الاستجابة لطلب من حكومة شرعية معترف بها دوليا تدافع عن سيادة دولتها، وعن إرادة شعبها، كما أن قرار المساعدات خضع لنقاشات ساخنة في المجتمع التركي عبر وسائل الإعلام، والأحزاب والمنتديات السياسية، وأخيرا في البرلمان الذي أقره بغالبية كبيرة، وبالتالي أصبح هذا الدعم يمثل الدولة التركية بكل أطيافها.
وفي المقابل، فإن أيا من الدول التي تقدم دعما لحفتر لم تجرؤ على أن تكاشف شعبها، أو أن تحصل على موافقة برلمانية، رغم أن بعضها يمتلك برلمانات “ديكورية” تتحرك بمجرد رسالة نصية قصيرة على هاتف رؤسائها، مثل البرلمان المصري، رغم أن شعوب وجيوش هذه الدول تدفع ثمنا لمعارك عبثية.
أما فرنسا فإنها تنكر تقديم دعم عسكري للواء حفتر، لكنها افتضحت مرتين خلال الفترة القليلة الماضية، الأولى حين قبضت قوات حرس الحدود التونسية في شهر أبريل الماضي على 13 فرنسيا بأسلحتهم لحظة عبورهم معبر رأس جدير قادمين من ليبيا، والمرة الثانية عندما غنمت قوات الوفاق صواريخ من قوات حفتر، اعترفت فرنسا بأنها خاصة بوحدة عسكرية فرنسية لمحاربة الإرهاب في ليبيا.
وبشكل عام لا تنكر الحكومة الفرنسية دعمها السياسي لخليفة حفتر الذي استقبلته أكثر من مرة، في حين رفض الرئيس الفرنسي ماكرون استقبال رئيس حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، فايز السراج. تكمن أهمية الانتصارات الأخيرة لقوات الوفاق في تطهير الساحل الغربي الذي كان يحاصر العاصمة طرابلس من الغرب، كما أن الطريق الساحلي الغربي أصبح الآن تحت سيطرة الحكومة الشرعية، وصولا إلى معبر رأس جدير الحدودي مع تونس؛ الذي كان ممرا لكثير من عمليات الهروب والتهريب سابقا.
كما أن المنطقة الغربية تستحوذ على العديد من آبار النقط والغاز، وفيها أحد أكبر مجمعات الغاز الذي يصدر إلى أوروبا، والذي خرج من قبضة حفتر إلى الحكومة الشرعية. كما أن هذه الانتصارات ترفع الروح المعنوية لقوات الوفاق وتشجعها على المضي قدما في الحسم العسكري الكامل بعد فشل الحلول السياسية..
الأسئلة الملحة الآن: ماذا بعد هذه الانتصارات الأخيرة لقوات الوفاق؟ وهل ستواصل عملياتها حتى تقضي على الوجود العسكري لحفتر تماما؟ وهل ستحقق عاصفة السلام شعارها المرفوع وهو السلام لليبيين؟ وكيف ستتعامل الأطراف الإقليمية والمجتمع الدولي مع هذه التطورات؟ الواضح من الانتصارات الأخيرة أنها أحدثت تغييرا في موازين القوى على الأرض، لكنه ليس بالقدر الذي يسمح بتحقيق سلام مستقر في ليبيا، ولا تزال العاصمة طرابلس تحت الحصار، ولا يزال داعمو حفتر مصممين على تعويمه سياسيا وعسكريا، ولن يسمحوا بسهولة بخروجه من المشهد السياسي.
وقد بدأت الأصوات الدولية تتعالى مجددا لوقف القتال والعودة إلى طاولة المفاوضات، رغم أن هذه الأصوات كانت قد خفتت من قبل حين كانت قوات حفتر هي التي تتقدم على الأرض، لكن الحالة المعنوية العالية التي تعيشها قوات الوفاق مدعومة بالمدد العسكري التركي الذي قلب الموازين ستواصل عملياتها لاستكمال تطهير المنطقة الغربية على الأقل في المرحلة الأولى، وهو ما يعني أيضا تحرير قاعدة الوطية من قبضة قوات حفتر، وساعتها ستكون حكومة الوفاق في وضع تفاوضي مثالي يمكنها من تحقيق شعار هذه الحملة العسكرية، وهو “السلام” لليبيين.
من الطبيعي في هكذا أجواء أن ترتفع الأصوات الليبية بضرورة القضاء المبرم على فتنة حفتر، وعدم الجلوس معه على مائدة تفاوض، وعدم السماح له باي دور مستقبلي في حكم ليبيا، وهذه أمنيات مشروعة، لكن عالم السياسة لا يعمل وفق الأمنيات بل وفق الأوضاع على الأرض. ومن هنا، فإن المتوقع أن تحرص الدول الداعمة لحفتر على منحه دورا في حكم ليبيا ولو من خلال موقع وزير دفاع مثلا، أو نائبا لرئيس حكومة، أو عضوا في مجلس رئاسي مصغر، وفي أحلك الظروف بالنسبة له ستضمن له خروجا آمنا من ليبيا، ليعود إلى مهجره القديم في بنسلفانيا أو ربما القاهرة أو أبو ظبي.
الليبيون أدرى بشؤونهم، لكن ما يهمنا في ما يجري وسيجري، هو تأثيره على توازنات المعركة بين قوى الربيع العربي، وحلف الثورة المضادة، حيث إن هزائم حفتر في ليبيا هي هزائم بالتأكيد لهذا الحلف الذي أشعل الحرب في ليبيا، والذي جند حفتر لخوضها، ودعمه بكل قوة. ولذلك، فإن عواصم هذا الحلف تعيش حالة توتر حاليا بسبب تلك الهزائم، وتعقد اجتماعات على أعلى مستوى سياسي وعسكري لإنقاذ رجلها، ومن ذلك الاجتماع الطارئ الذي عقده السيسي مع وزير الدفاع ورئيس الأركان وقادة الجيوش والأفرع الرئيسية للقوات المسلحة المصرية عقب يوم واحد من تلك الهزائم.
وبالتأكيد حدثت اجتماعات طارئة في الإمارات وفي باريس.
وحين تنتهي هذه الجولة بإبعاد حفتر أو على الأقل تهميشه سياسيا فإن ذلك سيكون طعنة كبرى لحلف الثورات المضادة، وفي الوقت ذاته سيمثل طاقة نور لقوى الربيع العربي وخاصة في مصر المجاورة، وسيعزز الاستقرار في تونس والجزائر المجاورتين أيضا.