أنعشت الانتصارات الأخيرة والخاطفة في مدن الساحل الغربي الآمال بكسر حالة الاستكبار العسكري التي يصرّ عليها مجرم الحرب خليفة حفتر، والذي بدأت الضربات الموجعة تتوالى على مليشياته العاجزة عن تحقيق أي تقدّم عسكري سوى المراوحة في مكانها مع محاولات للتوغّل في بعض الجبهات تكشف عن حالة التضعضع وشبه الانهيار في صفوفها من المرتزقة والمجرمين، والتي بات واضحا أنها تعاني تيهاً وحيرةً ينقلب غضباً ظالماً يقصف الأحياء السكنية والمدنيين في طرابلس.
تصعيد الأعمال العسكرية وإطلاق عملية “عاصفة السلام” من قبل حكومة الوفاق جاء ردّاً مشروعاً على الانتهاك المتواصل للهدنة التي دعت إليها الأمم المتحدة لإتاحة المجال من أجل مكافحة جائحة كورونا، حيث لم تتوقف مدفعية حفتر عن قصف المدنيين في طرابلس وهو ما انعكس في تقارير حقوقية أفادت أن عدد الضحايا المدنيين ازداد في الأشهر الثلاثة الأخيرة بسبب اعتداءات مليشيات حفتر المستمرة.
هذا التصعيد العسكري لحكومة الوفاق جعل حفتر يخسر مساحات شاسعة واستراتيجية في الساحل الغربي إلى حدود تونس، كما جعل قوات الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق في جنوب العاصمة طرابلس أعلى جاهزية وأكثر تحصيناً، وهي في تقدم مستمر وإن كان بطيئاً بسبب ظروف الميدان.
كلّ هذه التحولات العسكرية لصالح الوفاق وما يقابلها من انتحار عسكري لمليشيات حفتر يغذّيه الدعم المستمر من دول العدوان خاصة مصر والإمارات، كلّ هذه الأمور تجعل الحديث عن حل سياسي أشبه بالخيال، خاصةً بعد فشل المجتمع الدولي في وضع مخرجات مؤتمر برلين موضع التنفيذ، وعجز الأوروبيين -أصحاب المبادرة- عن الوصول فيما بينهم إلى صيغة توافق حول الأزمة الليبية، ويبدو أن عدم التوافق هذا سيمتد ليشمل ملفات كثيرة داخل الاتحاد الأوروبي بعد فشله في إدارة أزمة كورونا، وسيكون الملف الليبي أقلّها إلحاحاً في ظل وضع اقتصادي هش لكثير من دول الاتحاد.
أيضاً فإن عدم الاهتمام الجاد من الإدارة الأمريكية بليبيا بعد انخفاض أسعار النفط، واتباعها سياسة مشوشة جعلت من ليبيا ساحةً لتنافس شركائها في المنطقة (تركيا من جانب، ومصر والإمارات من جانب آخر)، بحيث تضمن من خلال التواجد التركي إحداث توازن في المعادلة يمنع التغول الروسي، وهو أكثر ما يقلق واشنطن حالياً، وتضمن من الدعم الإماراتي والمصري لحفتر استمرار حالة التوازن التي لن ترجّح الكفّة لأحد.
هذا المشهد يتّسم بحالة من التوازن القاتل ببطء، والذي يقتات على الكيان الليبي على مستوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن يتأمّله يقف حائراً في إيجاد حلّ يكسر حالة التوازن المُحكمة والمعقّدة هذه، فالمجتمع الدوليّ باختلاف مصالحه ومشاريعه في ليبيا هو الراعي لهذه الحالة، والحسم العسكري الشامل لأي طرف غير ممكن، والحلّ السياسي بوجود المجرم حفتر وعقليته الاستبدادية إعادةٌ للتجارب الفاشلة بنفس الخطوات.
هذا التوازن وما يولّده من انسداد في المشهد يجعل التكهّن بنهاية الأزمة صعباً، ولكنه يحتّم أيضاً البحث عن مخرج من حلقة الصراع المفرغة، ويمكن القول: إن انسداد أفق الحلّ السياسي يفتح آفاقاً للعمل السياسي الجاد، الذي لا يقلّ في أهميّته عن العمل العسكري الذي ستبقى له الأولوية، هذه الأولوية التي ينبغي ألا تقلل من الجانب السياسي، وما اتخذته حكومة الوفاق خاصة وزارة الداخلية من خطوات بعد تحرير صرمان وصبراتة وبقية مدن الساحل الغربي خطوة جيدة ينبغي أن تكون ضمن إستراتيجية واضحة لحكومة الوفاق.
إن الاهتمام بالجبهة الداخلية وانفتاح حكومة الوفاق على حاضنتها الاجتماعية، واتخاذ خطوات جادّة في إصلاح حكومي واسع، وإشراك القوى السياسية في بلورة مشروع وطني واقعي، والارتقاء بمستوى الأداء ووضع آليات للحد من الفساد وتحقيق الشفافية، مع خطاب سياسي حاسم وواثق ودبلوماسية صارمة ومتّزنة، من شأن هذا كلّه أن يحدث حالةً من التعافي في غرب ليبيا ويجعله مركزاً لتمدّد هذا التعافي إلى بقية الوطن وإن احتاج ذلك إلى بعض الوقت.
الكاتب الليبي: علي أبوزيد