من أحد أسباب التطرف، المزايدة، سواء في عالم الدين أو السياسية والإعلام والاجتماع الإنساني برمته، فالمتطرف يزايد على مواقفه الحدية ليقفز في سلم جماعته الدينية والسياسية والاجتماعية. فمثلا لو قال متطرف إن فلانا فاسق، فسيقفز زميله مزايدا بأن فلان هذا كافر ابن كافر ومن أهل النار.
ويظهر ذلك في المذاهب السياسية والدينية التي بناها المنظرون لها على أحادية التفكير، أولئك الذين حاولوا على مدار سنين نضالهم هندسة المجتمعات، واعتبارها قطيعا قابلا للتحول والتشكيل بيسر وسهولة.
فالصهيانة متطرفون، لأنهم يلوون عنق التاريخ ويحشرونه ويفصلونه على مقاس رؤيتهم غير القابلة للتعايش، والإنجيليون متطرفون لتصورهم نهاية للزمان تقتضي تسهيل طرق الشعوب الوعرة أمام تلك النهاية، وعرف الإسلام عبر تاريخه جماعات متطرفة كان السيف أصدق نبأ من أي جدليات أخرى، والماركسيون متطرفون لحشرهم الإنسان في بعد مادي، مع عملهم الدؤوب على إحلال الفوضى كسبيل للخلاص من القيود الاجتماعية. الشموليون متطرفون لأنهم ظنوا أن الله بعثهم لحكم الكون. هذه هي الصورة النمطية للمزايدة والتطرف، حيث أن الميديا الحديثة ركزت وكثفت بعض أنواع هذا التطرف في عقول الناس.
إلا أن هناك نوعا من التطرف المبني على المزايدة أربابُه من أصحاب القلم ونجوم الشاشات من الإعلاميين وطيف واسع من الصحفيين، يصنعون نماذج ثقافية تختفي وراء شعارات سياسية يزايدون بها على الناس. فمثلا لو كتب أحدهم عن لقاء البرهان بنتنياهو، فسيهب آخرون لسبك ألفاظ ترتفع فيها وتيرة الشتم والسب حتى يكون بريئا أمام جمهوره ومشاهديه، دون أن يكون لذلك منطلق بالضرورة.
يستطيع هؤلاء أن يصنعوا مجلة يسمونها “الأخلاق الحميدة” مثلا يكتبون فيها رؤيتهم لعالم موحد “منمذج”، وهذا ليس بدعا من التاريخ، فكثير من الفلاسفة اعتصموا في عوالمهم الخاصة، وتشدقوا بما أتيح لهم من ملح القول وسكره.
إلا أن الواقع رفض كل تلك الرؤى ولفظها خارج التاريخ، حيث إن حركة الأخير اليومية لا تبنى على الأدب الرؤيوي ولا النبؤات. إسلاميًّا منذ معاوية بن سفيان كان صلف الواقع وإكراهات السياسة الممزوجة بالدم والسيف كان هو الحكم والفصل، وانتحر كل الحالمين بتغيير هذا النمط من الحكم، حيث يبدو أن عربيتنا تأبى إلا الخضوع لعالم من القوة خال من أية أخلاقيات.
نعود إلى عالم الميديا المنقسم والمتشظي، حيث من المفترض أن نطرح سؤالا عن مدى جدية هؤلاء الأخلاقيين؟ حيث سأعتمد على المؤرخ والصحفي الإنجليزي بول جونسون، الذي كشف في كتابه “المثقفون” ترجمة طلعت الشايب، أن كثيرا من الذين كنا نظن أنهم أصحاب تنبؤات أخلاقية، هم في حقيقة الأمر لا يختلفون كثيرا عن أي لص أو مقامر نزق، ضاربا أمثلة كثيرة بكارل ماركس وجان جاك روسو وجان بول سارتر، الذين ناقضوا أفكارهم إلى حد الابتذال، ولم يصدُقوا في مسلكهم العملي واليومي مع ما وعدوا به البشرية.
أخشى لو نقّبنا وراء أساطين الإعلام وأرباب مواقع التواصل الاجتماعي أن نقع في فخ هذا التناقض المشين والمعيب، وأن تكون مواقفهم الأخلاقية رهن الطلب والإشارة والإيماءة.
ليس هذا الصنف الوحيد الذي يحاول “أخلقة” العالم، فهناك الفاشلون والمنفيون خارج التاريخ والسياسة والواقع، والذين فقدوا كل مكانة سياسية أو اجتماعية، الذين يلجأون إلى مثل هذا النمط من التنظير تعويضا عن عجزهم عن التعايش مع عوالم السياسة المليئة بالمصالح المتضاربة.