الجمهورية الطرابلسية هي تاريخ لنضال مشرف وإرث سياسي يعود لأول جمهورية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، أسست بمشروع وطني سابق لعصره، أعلن عنه تحت أشجار نخيل جامع المجابرة بمدينة مسلاتة، وكان أبطال هذا المشروع التقدّمي قادة الجهاد ضد الطليان في غرب ليبيا. فمن الجبل الأشم، سليمان باشا الباروني، ابن مدينة كاباو وقائد الأمازيغ في ذلك الوقت، إلى رمضان بك السويحلي، القائد الشجاع لمجاهدي مصراتة، وعبد النبي بالخير، رجل السياسة والجهاد في ورفلة في ذلك الحين، وأحمد المريض، الذي كان وقتها يقود قبائل ترهونة ومسلاتة.
بدون شك، فإن لأبناء طرابلس الحق في التفاخر بالكفاح الذي خاضه أباءهم المؤسسون للجمهورية الطرابلسية واستذكار أمجادهم، وما تبعه أيضا من نضال خاضه لاحقوهم من قادة السياسة والجهاد في طرابلس الغرب، والذي أوصل في النهاية إلى إنهاء وصاية المستعمر من أقاليم ليبيا وافتكاك الاستقلال من الأمم المتحدة عبر قرار من جمعيتها العامة في نوفمبر 1949، وما لحقه أيضا من جهود حثيثة قدمت فيها مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتوجت بإعلان استقلال ليبيا الموحدة بأقاليمها الثلاث في 24 ديسمبر 1951.
إن الحملة التي انطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتأسيس الجمهورية الطرابلسية الثانية، والتي سرعان ما انجر وراءها العديد من الشرفاء للأسف، تستهدف وحدة التراب الليبي عبر استغلال إرث الجمهورية الطرابلسية للدعوة للانفصال، وهي سابقة خطيرة تأتي نتاج إقحام حفتر لعدد من قبائل برقة في هجومه على العاصمة طرابلس، وما لحق هذا الهجوم من خطاب كراهية غير مسبوق ضد قبائل ومدن ومكونات بكاملها من قبل قنوات وإعلاميين، وصفحات وحسابات وهمية أكدت إدارات الفيسبوك وتويتر في أوقات سابقة من سنة 2019 رصدها لها واكتشافها لعلاقاتها المباشرة بشبكات تدار من دول عربية معادية لحكومة الوفاق الوطني. فالناظر لهذه الدعوات التي تروج على أن هذا الانفصال هو حل أخير لوقف إراقة دماء الليبين وإنهاء الصراع الذي لم يتوقف منذ فبراير 2011 يستطيع بسهولة تمييز بطلان هذه الادعاءات التي هي بدون شك تعتبر بنظر القانون الليبي خيانة عظمى تهدد وحدة وسيادة الأراضي الليبية، فضلا على أنها خيانة للأجداد المؤسسين لهذه الجمهورية والذين تنازلوا عن الحكم لتكون ليبيا موحدة، وخذلان لتضحيات أبطال فبراير الذين أكملوا مشوار أجدادهم وهم يحلمون بليبيا، دولة واحدة موحدة، دولة المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعية.
إن أي ترويج على أن الصراع في ليبيا هو بين إقليمي طرابلس وبرقة وبتقسيم (الكعكة) سينتهي الصراع هو أمر غير صحيح على الإطلاق. فالتشتت والانقسام في ليبيا عميق ولا يقسم بالضرورة طرفي النزاع إلى كتلتين شرقية وغربية، فالمشاكل في طرابلس وبرقة كثيرة ومتعددة ولن تُحل بتجاهلها. فطربلس لا زالت تعاني من المشكل بين أحفاد السويحلي وبالخير في مصراتة وورفلة والتي لم تحل منذ مائة سنة واستفحلت بعد فبراير. كذلك الأمر بين زوارة ومحيطها العربي، والزنتان وباقي جبل نافوسة، وورشفانة والزاوية، ومصراتة وتاورغاء (المتواجدين في الشرق الليبي والذين لم يقبلوا باتفاق المصالحة)، والعرب والأمازيغ ومطالبهم بترسيم لغتهم، وتياري فبراير وسبتمبر، هذا فضلا عن مدن صبراتة وصرمان وترهونة التي أقحمتها قياداتها في حرب خاسرة ضد محيطها الطرابلسي عند إعلان حفتر هجومه في 4 أبريل الماضي.
برقة هي الأخرى غارقة في مشاكلها الداخلية بين مكوناتها المختلفة، فالمُهجّرون من الرافضين لمشروع العسكراتاريا في بنغازي يتجاوزون 13 ألف عائلة بحسب تقرير لهيومان رايتس ووتش في سنة 2018، وانضم إلى هذا الرقم أيضا عدد كبير آخر من العائلات بعد احتلال وتدمير مدينة درنة. هذا فضلا عن آلاف المعارضين الأخرين هناك والذين أجبرتهم عصا القبيلة وبندقية العسكر على السكوت خوفاً من مصير دموي ينتهي بهم في شارع الزيت ببنغازي. مؤشر آخر أيضا يمكننا استنباطه من استحالة تحقيق هذه الحملة لأهدافها التي يدعيها مطلقوها هو طمس حفتر لانفصاليي برقة منذ إطلاقه لمشروع الكرامة لإداراكه بأن أصوله الطرابلسية ستمنعه من تحقيق أحلامه في الوصول إلى السلطة في برقة، فبالتالي لا يمكن لهذه المطالب أن توقفه أبداً عن حربه المستميته للدخول للعاصمة.
سيداتي سادتي، إن الذهاب في مسار التقسيم لن يجلب لنا إلا حرباً شرسة على مناطق (الصراع الحدودي)، وهي في هذه الحالة منطقة الهلال النفطي، حيث ستطالب طرابلس بالترسيم عند قوس الأخوان فيليني (العقيلة) أسوة بحدود 1951، بينما سيدفع الانفصاليون في برقة، كما قاموا بذلك في سنتي 2012 و 2013 نحو ترسيم هذه الحدود عند الوادي الحمر، الأمر الذي يجعل تسوية هذه النزاع لاحقا مسألة معقدة للغاية لما للهلال النفطي من أهمية استراتيجية للطرفين.
بقلم الكاتب الليبي : محمد أبوسنينة