in ,

ليبيا في سياق العثمانية الجديدة

بتوقيع حكومة الوفاق مذكرتيْ التفاهم مع تركيا تصاعدت وتيرة التحذير من العثمانية الجديدة في وسائل إعلام “الكرامة”، وتحذيرهم من مشروع أردوغان الطامع في إعادة أمجاد أجداده العثمانيين الأتراك، بل بلغ الأمر إلى وصف مدن وعائلات بأنها تركية ودخيلة على الليبيين، ودسيسة في نسيجنا الاجتماعي يجب التخلّص منها.

هذا الخطاب الذي زاد التركيز عليه جاء كردّة فعل على تنامي الدور التركي الداعم والمساند لحكومة الوفاق، ويهدف إلى تحشيد الناس حول قضيّة وهمية جديدة هي (مقاومة الاستعمار)، بعد أن أصبحت قضية (محاربة الإرهاب) غير مقنعة وهي تحصد أرواح شباب المنطقة الشرقية دون أن تحقق أي نصرٍ ودون أن ترويَ تعطّش “حفتر” المجنون إلى السلطة -وما هو ببالغها-.

وليس بمستغرب أن يتمّ استخدام هذا الخطاب ضد الدور التركي في ليبيا من قِبَل إعلام “الكرامة”؛ لأنّه جزء من مشروع محور الاستبداد الذي يرى في تنامي الدور التركي إقليمياً أكبر خطرٍ عليه.

وليكون تناولنا للقضية أكثر موضوعيةً ينبغي أن نتساءل: هل فعلاً يطمح الأتراك إلى إعادة إحياء الدولة العثمانية؟

وفي الإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول: إن تركيا بنظامها الحالي وبتعاطيها الدبلوماسي وعلاقاتها السياسية تدرُك جيداً أن التفكير بهذه العقلية لا يعبر إلا عن أحلام المراهقين السياسيين، ولا يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه خاصةً وأن المجتمع التركي والواقع الدولي لا يحتمل مثل هذه الطموحات السابحة في أوهام الخيال، ولذلك فإن الأتراك الساعين للتوسع في المنطقة كان نهجهم ما قبل الربيع العربي مبنياً على استراتيجية (صفر مشاكل)، والتي أثبتت عدم جدواها في ظل منطقة تغلي بالتوترات والأزمات، والتي كان من تداعياتها المحاولة الانقلابية على النظام التركي في يوليو 2016، ما جعل الأتراك يعقدون العزم على دور أكثر تأثيراً ووضوحاً في المنطقة.

ولعلّ أهمّ ما يميّز النظام التركي هو الاستقلالية التامة في القرار السياسي رغمَ كونه جزءاً من منظومات دولية مهمة أبرزها تحالف الناتو، وهو ما يفسّر تعرّض تركيا لكثير من الضغوطات والعقوبات خاصةً الأمريكية، والتي زادت وتيرتها بعد فشل المحاولة الانقلابية، فاستقلالية القرار والمقدرة الفائقة على إدارة ملفات الصراع في المنطقة بما يحفظ المصالح التركية جعلها عرضةً لكثير من الضغوطات، والتي رغم شدّتها أعطت الدبلوماسية التركية مهارة في خلق توازنات حساسة ودقيقة، من أوضحها مقدرة الأتراك على الوصول إلى تفاهمات مع الروس فيما يخص الملف السوري الذي قد تكون مصالح الطرفين فيه متصادمة أحياناً، إضافة إلى التعامل مع الجانب الأمريكي والأوروبي بدبلوماسية صارمة مبدؤها الندّيّة لا التعبيّة، الأمر الذي جعل المنظومة الدولية المهيمنة تنظر إلى الدور التركي المتنامي بعين القلق.

وقد أدركت القوى السياسية التركية بما فيها المعارضة أن أهم ضمانات الاستقرار في تركيا هو المحافظة على ديمقراطية نظامها السياسي، ودعم توجه الإدارة التركية في سياستها الخارجية، لأن في ذلك حفاظاً على أمنها القومي وصوناً لحقوقها الاقتصادية.

وإذا كانت تركيا تسعى من خلال توسعها في المنطقة إلى تحقيق مصالحها وتنمية مواردها، فهي بلا شكّ ستبحث عن هذه المصالح في دول تقاربها في الرؤى والتوجهات، وتشاركها في القيم والانتماء، لذلك كان الانفتاح والتوجه التركي تجاه العالم العربي والإسلامي، ولعلّ هذا ما أزعج محور الاستبداد العربي، الذي يرى في ديمقراطية تركيا، وخروجها من رِبقة الهيمنة الأمريكية واستقلال قرارها السياسي، يجعلُها الدولة الأكثر مقدرةً على قيادة العالم الإسلامي، والطرف الأنسب والأقوى الذي تسعى إلى التحالف معه دول الربيع العربي الساعية للنهوض من إرث الاستبداد، وهذا الأمر هو ما يمثّل الخطر الأكبر على مشروع دول محور الاستبداد، لذلك فإنها لا تفتأ تستدعي التاريخ العثماني التركي في صورة احتلال للعالم العربي، وتسلط الضوء على بعض محطاته وجزئياته التي تخدم توجهها، ولتفسّر الحركة التاريخية فيه بالعقلية القومية، محاولةً خلق عدو جديد هو العدوّ التركي، وتدعو في نفس الوقت إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، متناسية أن العقلية القومية أصبحت خارج الخدمة، وخطابها الركيك البائد صار خارج دائرة التأثير.

وفي المحصّلة فإن الدولة التركية منذ فشل المحاولة الانقلابية صارت موقنة أن دورها الإقليمي ينبغي أن يتوسع ويصبح أكثر تأثيراً من خلال الحفاظ على سيادة قرارها، والسعي إلى بناء شراكاتها ضمن بعدها الإسلامي والإقليمي، والمحافظة على توازن علاقاتها داخل المنظومة الدولية، وهو ما يفسر نجاحها عندما دخلت بثقلها في الأزمة الليبية، من خلال توقيع مذكرتي التفاهم اللتين كسرت بهما محاولة عزلها في شرق المتوسّط، وعزّزتا من دورها في ليبيا بما يتماشى مع النظام الدولي، ولو كان لهذا الأمر أي إشكالٍ قانوني لرأينا الاعتراضات ومشاريع القرارات في مجلس الأمن للحدّ منه، ولعلّ هذا التقارب بين تركيا وليبيا سيكون مقدّمة لتحالفٍ يقضي على مشاريع محور الاستبداد، ويعيد الأقزام المتطاولين إلى أحجامهم.

في ظل القبضة الأمنية لحفتر في بنغازي.. هل يجرؤ أحد على المطالبة بوقف العدوان على العاصمة؟

صوان: موقف الجامعة يؤكد سلامة موقف الوفاق في مواجهة التمرد وعقد التحالفات