العدوان وإعلان النفير
وقوع عاصمة الليبيين تحت العدوان كان العنوان الأبرز لعام 2019، طرابلس عروس البحر تشهد حربا لم تشهدها من قبل، بدأت في الرابع من أبريل عندما أطلق العسكري المتهور خليفة حفتر ما أسماه “الفتح المبين” قبيل أسبوعين من انطلاق المؤتمر الوطني الجامع في غدامس الهادف لجمع الفرقاء وإنهاء الجمود السياسي، لكن حلم حفتر سرعان ما تبدد على أسوار طرابلس العصية، ولقي مواجهة شرسة من قوات الجيش الليبي التي أجبرت أرتاله العسكرية الزاحفة على التوقف ولقنته دروسا في القتال.
بداية الانقلاب في الرابع من أبريل الماضي عندما فوجئ الليبيون بخطاب حفتر الذي أعلن فيه بداية الهجوم على طرابلس، وبثت وسائل إعلام معسكر الرجمة خطابا مسجلا لحفتر أطلق من خلاله عدوانه متوهما أنه سيسيطر على العاصمة خلال أيام بعد أن دخلت قواته على حين غرة مدينة غريان، وأعلنت القوات الموجودة في مدينتي صرمان وصبراتة ولاءها له، واستمرت قواته في الزحف حتى وصلت مناطق الـ27 والعزيزية والسواني وبعض مناطق عين زارة.
وردا على ذلك، أعلن القائد الأعلى للقوات المسلحة فائز السراج النفير العام لجميع القوات العسكرية والأمنية وإطلاق عميلة بركان الغضب لدحرالعدوان، لتلبي المناطق العسكرية الثلاث طرابلس والغربية والوسطى نداء النفير وتتوجه بكامل ثقلها تجاه العاصمة لصد عدوان حفتر.
ولم تمضِ ساعات حتى أعادت قوات الجيش سيطرتها على بوابة الـ 27 غرب العاصمة، وأسرت اكثر من 100 عنصر يتبعون كتائب حفتر بكامل عدتهم.
تنظيم الصفوف والهجوم المضاد
وبعد السيطرة على بوابة الـ27 وتشكل الطوق الدفاعي عن طرابلس، بدأت قوات الجيش في الـ10 من أبريل أولى عملياتها الهجومية، وشنت هجوما مباغتا على عناصر حفتر المتمركزة في منطقة السواني جنوب طرابلس وسيطرت على المنطقة.
وفي الـ 13 من الشهر ذاته، بسطت قوات الجيش سيطرتها على منطقة العزيزية بالكامل لتلتحم قوات المنطقة الغربية والوسطى وطرابلس مع بعضها وتضع أعينها صوب الهيرة قرب غريان، وكان لقوات الجيش ما أرادت وتقدمت في الـ 23 من أبريل الماضي صوب الهيرة واشتبكت مع عناصر حفتر هناك قبل أن تلوذ هذه العناصر بالفرار أمام ضربات قوات الجيش التي سيطرت على الهيرة.
وفي 30 من أبريل، تقدمت قوات الجيش إلى منطقة “السبيعة” جنوبي طرابلس وسيطرت على تجهيزات لوجستية لقوات حفتر في السبيعة، بينها مستشفى ميداني عسكري.
حفتر استعان بالميليشات القبلية وبعض أنصار النظام السابق الفارين من العدالة، وأصحاب السوابق الجنائية ومن أبرزهم محسن الكاني ومحمد الشتيوي المعروف بـ “الكبة” الذي قتل في 14 من يوليو، وعبد المنعم قريرة آمر مليشيا تعرف بـ “برق النصر”، بالإضافة إلى المليشيات الدينية من أمثال مليشيا سبل السلام من مدينة الكفرة، وطارق بن زياد التي قتل آمرها المدعو عبد الحكيم مقيدش في قصف جوي في منطقة السبيعة.
الرد الساحق
واستمر مسلسل الهزائم التي تلقاها حفتر وعناصره على يد قوات الجيش، وكانت الصفعة الأكثر إيلاما لحفتر هي استعادة غريان في الـ26 من يونيو، المدينة التي تبعد 85 كلم جنوب العاصمة والتي دخلها حفتر غدرًا في ساعات متأخرة من الليل، وأقام فيها غرفة عمليات عسكرية، لينتفض أهلها لمساندة قوات الجيش التي تحركت لتحريرها.
وكلف تحرير غريان “في غضون 6 ساعات” حفتر خسارته لغرفة العمليات الرئيسية وفرار قائد العدوان على طرابلس عبد السلام الحاسي، بالإضافة إلى العثور على صواريخ “جافلين” الأمريكية المضادة للدروع التي باعتها الولايات المتحدة لفرنسا، و3 طائرات “وينغ لونغ” الصينية المسيرة التي تعود ملكيتها للإمارات، والقبض على العديد من مرتزقة دارفور.
وبعد تحرير غريان جُن جنون حفتر ولم يتوقف القصف الجوي للمدينة، وبدأت تتضح معالم الدعم الخارجي المقدم لحفتر، وبعد قبض السلطات التونسية مطلع أبريل على عدد من رجال الاستخبارات الفرنسية أثناء تسللهم إلى داخل الليبية ليتضح لاحقًا، بحسب صحف عالمية وفرنسية، أن هذه المجموعة أنشأت غرفة عمليات عسكرية لحفتر داخل غريان.
وتخلل هذه الشهور إعلان حفتر وإعلامه ساعات صفر عديدة لاقتحام العاصمة قوبلت في كل مرة بصمود كبير من قوات الجيش، إحداها في بداية شهر رمضان المبارك وأخرى قبيل عيد الأضحى.
واستولت قوات الجيش على عدد من مدرعات “تايقر” الإماراتية ومدرعات ” الوحش” الأردنية وذخائر مصرية، وتلقى حفتر ضربات موجعة من سلاح الجو الذي استهدف قاعدة الجفرة في 26 يوليو مما أسفر عن مقتل 6 ضباط إماراتيين، وتدمير طائرتي شحن “يوشن 76” ومقتل قائد إحداها وهو أوكراني الجنسية كما كشفت مصادر صحفية روسية حينها.
كما أسقطت دفاعات الجو عدة طائرات مسيرة وحربية واستطلاعية، فنحجت في إسقاط طائرة استطلاع روسية شرق سرت، تبعتها طائرة ميغ 23 في مايو، وفي يوليو دمر سلاح الجو طائرة سوخوي في قاعدة الوطية الجوية وطائر استطلاع فوق سماء مدينة العزيزية، وفي أواخر يوليو حطت طائرة ميراج 39 الرحال في إحدى الطرق الرئيسية في مدينة مدنين بتونس وسلم قائدها نفسه للسلطات هناك.
وفي أغسطس، نجح الدفاع الجوي في إسقاط الطائرة الصينية المسيرة “وينغ لونغ “لأول مرة بعد استهدافها منطقة جنوب بوقرين، تبعتها أخرى فوق سماء مصراتة في منتصف أكتوبر، وطائرة سوخوي بعد استهدافها في العزيزية في الشهر نفسه.
وقتل في 14 من سبتمبر الماضي أبرز قادة حفتر في عدوانه على طرابلس: آمر اللواء التاسع عبد الهادي المقري، وآمر ميليشيا الكاني محسن وشقيقه عبد العظيم الكاني، ودمرت قوات الجيش 5 غرف عمليات لحفتر في وادي الربيع والجفرة والسبيعة وقصر بن غشير وبير العالم.
التدخل الخارجي واستهداف المنشآت المدنية
المرتزقة الروس ظهروا في أرض المعركة في بداية سبتمبر، وشاركوا في معارك مختلفة مع عناصر حفتر ضد قوات الجيش، لعل أبرزها معارك العزيزية والساعدية، وقتلت منهم قوات الجيش العديد واستهدفت غرفة عملياتهم.
وكشفت صحيفة روسية في 3 من أكتوبر عن مقتل 35 من المرتزقة في منطقة قصر بن غشير جراء غارة جوية لقوات الجيش، لتؤكد بعدها وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية وجود قرابة 200 مرتزق من شركة “فاغنر” الروسية تقاتل في الصفوف الأمامية مع عناصر حفتر جنوب طرابلس.
المطارات والبنى التحتية لم تسلم من القصف، فقصف طيران حفتر مخازن وزارة التعليم، ومطار معيتيقة مرارا وتكرارا بالطائرات وصواريخ غراد التي أصابت المدنيين العاملين فيه وعددا من الحجاج، وألحقت أضرارا بالطائرات والمهبط.
وقصفت طائرات حفتر في أغسطس مطار زوارة بقنابل عنقودية كما قصف مطار مصراتة مرات عدة.
وخلّف القصف الجوي الذي شنه طيران حفتر على حي سكني في مدينة “مرزق”، في أغسطس، أكثر من 40 قتيلا و60 جريحا.
وأعلنت وزارة المواصلات في الثاني من سبتمبر تعليق الملاحة الجوية في مطار معيتيقة الدولي، جراء تعرضه للقصف المتكرر من طيران حفتر.
وكشف تقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا الصادر في 10 ديسمبر عن الدعم الخارجي الذي يتلقاه حفتر من الأردن والإمارات اللتين قدمتا بصورة منتظمة الأسلحة إلى حفتر دون بذل جهد يذكر في إخفاء المصدر.
وأضاف التقرير أن الإمارات زودت حفتر بمنظومة
دفاع جوي من نوع pantsir S_1؛ لتركيبها في قاعدة الجفرة في 19 مارس الماضي، وشوهدت
المنظومة أيضا في غريان بتاريخ 19 يوينو.
التقرير بيّن عدد المرتزقة الذين استعان بهم
حفتر من فصائل المعارضة السودانية، فقد استجلب أكثر من 500 مرتزق تابعين لجيش
تحرير السودان ـ فصيل عبد الواحد لدعم توغل عناصره في الجنوب.
وأوضح التقرير أن حفتر استخدم فصائل تحرير السودان لحماية الخطوط الخلفية لعناصره، وهي مكلفة حاليا بتأمين خطوط الإمداد بين طرابلس والجفرة، لافتا إلى أن اتفاق حفتر مع الطاهر أبوبكر القيادي في “قوة تحرير السودان” لتزويدة بفصيل من المقاتلين من ذوي الخبرة يتكون من 500 إلى 700 مقاتل، تتخذ من محيط مزرق وأم الأرانب وسبها مقرات لها.
وأكد فريق الخبراء أن نائب الحاكم العسكري في
السودان “حميدتي” أرسل ألف جندي من قوات الدعم السريع في 25 يوليو
الماضي إلى حفتر لحماية المنشآت التابعة له حتى يتسنى له الهجوم على طرابلس.
وكشف التقرير عن تنفيذ الطيران الداعم لحفتر لأكثر من 800 غارة مند بداية العدوان أسفرت
عن مقتل 182 مدنيًّا وجرح 182 آخرين.
إعادة التوازن العسكري
وفي تطور جديد وقّع رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، في أواخر نوفمبر، مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مذكرتي تفاهم أمني وعسكري في إطار دعم الحكومة الشرعية لمواجهة عدوان حفتر وجيشه متعدد الجنسيات.
وارتكب طيران حفتر جريمة أخري في الجنوب حين قصف، في في 30 من نوفمبر، منطقة أم الأرانب فقتل 14 طفلا و4 نساء وجرح العشرات من المدنيين.
وفي 7 من ديسمبر، نجحت الدفاعات الجوية في إسقاط طائرة حربية نوع ميغ 23 تابعة لحفتر فوق سماء مدينة الزاوية، وتمكنت من أسر طيارها عامر الجقم أحد أذرع حفتر ومساعد آمر قواته الجوية.
الجقم كشف في أول اعترافاته أن الطيران المسير الذي يقصف المدن الليبية يديره ضباط إماراتيون عبر غرف عمليات في قاعدتي الخروبة والرجمة، وأن عددا من الضباط الإماراتيين قتلوا في قصف لقاعدة الجفرة مما دفعهم إلى مغادرتها.
واعترف الجقم بأن الروس هم من يسيرون المعارك ميدانيا ويقدمون الدعم الفني ويتمركزون في قصر بن غشير وترهونة، مشير الى أن الغارات التي استهدفت مصراتة ومطار معيتيقة وزوارة وتاجوراء ينفذها طيران حربي إماراتي، ولا علاقة للطيران الليبي بها.
وفي منتصف ديسمبر، رجع حفتر ليعلن ساعة صفر جديدة لاقتحام العاصمة التي بلغ عدد قتلاه على أسوارها أكثر من 7000 قتيل بحسب تصريح المسماري، لكن سرعان ما تبين أن إعلانه مجرد أوهام تلفزيونية لشراء الوقت، وقد قوبلت برد عنيف من قوات الجيش وتبعها إعلان حالات النفير في عدد من مدن المنطقة الغربية لرد العدوان وتسخير كافة إمكاناتها للدولة للمساعدة في سحق قوات حفتر المتعددة الجنسيات.
وعقب توقيع مذكرة التفاهم الليبية التركية، أكد الرئيس التركي أن بلاده مستعدة لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا إذا ما طلبت حكومة الوفاق ذلك، وفي 19 من ديسمبر أقر المجلس الرئاسي تفعيل مذكرة التفاهم وطلب الدعم النوعي وفقا لما نصت عليه مذكرة التفاهم.
ويودع أهل ليبيا عامة، وطرابلس خاصة، هذا العام وقرابة 130 ألف نازح يمر عليهم الشتاء وهم خارج بيوتهم؛ بسبب طموح شخص عسكري قارب الثمانين عاما في الوصول إلى الكرسي، على أمل أن يكون العام القادم عام التخلص من الاستبداد والعودة للمسار الديمقراطي الذي ضحى أبناء ليبيا من أجله لسنوات طويلة.