الاهتمام الأمريكي المتزايد والمتسارع بالملف الليبي مؤخراً شغل الرأي العام على المستوى المحلي والدولي، وأكّد على أن الإدارة الأمريكية لديها مؤشرات خطيرة على تصاعد النفوذ الروسي، مما جعلها تتحرك بشكل مكثف من خلال لقاء أطراف الصراع وتبنّي خطاب أكثر وضوحاً وتحديداً، والإعداد لما يتوقع أن يكون وساطةً في الأزمة الليبية.
إدارة ترمب تواجه انتقادات متزايدة على صعيد السياسة الخارجية وتُتهم في الأوساط السياسية الأمريكية بخسارتها كثيراً من مناطق نفوذها لحساب روسيا والصين؛ لذلك فإن الملف الليبي يمثّل تحدٍّ أمامها، وهذا ما يفسر الكثافة غير المعهودة في التصريحات وعقد اللقاءات، والتي تراجع معها الحديث عن مؤتمر برلين ودور البعثة الأممية.
كما أن ترمب الذي يواجه حملة شرسة من الديمقراطيين الساعين في عزله ومحاكمته، يريد أن يقوم بدور حاسم في الملف الليبي ليبعد عن نفسه شبح التواطؤ مع روسيا، خاصة بعد اتصاله الشهير بحفتر في بداية عدوانه على طرابلس، والذي اعتبره كثيرون مجاملة سياسية من ترمب لداعمي حفتر (مصر والإمارات) آنذاك.
أيضاً فإن توجه الكونغرس الأمريكي إلى سنّ قانون “تحقيق الاستقرار في ليبيا” يمثّل عامل ضغط على إدارة ترمب ويجعلها تتحرك بسرعة؛ لأن هذا القانون في حال تم إقراره سيضيق هامش المناورة لدى الإدارة الأمريكية ويجعل سياستها في الملف الليبي أكثر تحديداً.
وإذا كان الاهتمام الأمريكي بالأزمة الليبية جاء نتيجة قلق الولايات المتحدة وخوفها على مصالحها ونفوذها من الوجود الروسي، فإن تدخلها في هذه الأزمة سيكون للحفاظ على هذه المصالح والنفوذ، وهذا ما يفسّر الإصرار الأمريكي على إنهاء القتال في العاصمة طرابلس قبل الحديث عن تفاصيل أي حل سياسي؛ لأن بإنهائها الحرب في طرابلس تنهي ذرائع ومبررات الوجود الروسي في ليبيا واستعانة حفتر بهم، كما أن الضغط الناعم على حفتر وحرص الإدارة الأمريكية على عدم التصعيد معه بشكل مباشر يمكن إرجاعه إلى تخوف الإدارة الأمريكية من ارتماء حفتر بالكلية في أحضان الروس، وحينها قد يصبح الصراع أمريكياً روسيّاً مباشراً، خاصةً وأن حفتر يستحوذ على رقعة واسعة من الأرض، غير أن هذا الضغط الناعم قد يتصاعد في حالة تعنّت حفتر ورفضه التعاطي مع التحركات الأمريكية.
وهنا ينبغي القول: إن التدخل الأمريكي في الملف الليبي يأتي في سياق الواقع السياسي للوضع الليبي الذي صار مفتوحاً على كل التدخلات الإقليمية والدولية، بسبب طول أمد الصراع وضعف الأطراف وعدم مقدرتها على الحسم، مما ولّد جموداً سياسياً وعسكرياً وبدأت آثار التآكل والانهيار تظهر في جسد الدولة وكيان الوطن بسببه، وعليه فإن المجلس الرئاسي وحكومته ينبغي أن تدرك كيفية إدارة مصالحها مع الجانب الأمريكي بمايضمن لها تحقيق الاستقرار وإنهاء الصراع، فالتدخّل الأمريكي مرهون بالحفاظ على مصالحه ونفوذه، والذي قد يتحقق دون تحقق الاستقرار وانتهاء الأزمة، لذلك فإنه ينبغي ربط المصالح الأمريكية بالاستقرار في ليبيا من خلال بناء شراكة استيراتيجية ودائمة، وكذلك تبديد المخاوف الدولية فيما يتعلق بالقضايا الأمنية ومكافحة الإرهاب، وأعتقد أنّ تحركات وزارة الداخلية الأخيرة التي تهدف إلى منع تغوّل المليشيات وتنفّذها في مؤسسات الدولة تصُبّ في هذا الاتجاه، ويبقى العمل على تفعيل دور وزارة الدفاع وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وإعداد برامج تأهيل ودمج قوات الإسناد أمراً ضرورياً في هذا الصدد.