إن أول عمل لـ”الاستعمار” قبيل دخوله على مجتمع ما هو تفتيت وضرب البنى الداخلية للمجتمع “المستعمر”، فبهذا يمنع المجتمع من النشاط المشترك وأداء وظيفته التاريخية، وهذه الاستراتيجية مع اختلاف أشكال تطبيقها يتفق الطغاة على أنها الوسيلة الأفضل للسيطرة، وهذه إحدى الأوراق التي لعبها تيار الثورة المضادة باكرا.
وأبرز ما يدندن حوله هذا التيار خطر تواجد جماعة الإخوان في المشهد الليبي، وبسماعنا لمثل هذه الصرخات تعود لشغل الرأي العام فإننا نسمع صدى قادما من الماضي الأسود، وسواء خيل إلينا أنه صدى صوت ذئب أم صوت حمل فإن منتهاه واحد، وهو شق الصف والتلهي بغير ذي جدوى.
وقد تابع الليبيون سهرة نعمان الأخيرة وأبرز ما شد الانتباه فيها من تضخيمه لمشكلة تواجد “التيار الإسلامي” في ليبيا، وبهذا أثار سؤالا جوهريا:
هل مشكلة المعتدين مع الإسلاميين أم مع الوطنيين؟! صدى الماضي الأسود (رهاب الأيديولوجيا):
إن الإجابة عن سؤال المقال الجوهري يلزمه أولا تبديد “رهاب الأيديولوجيا” بفهمنا لمعنى كلمة “أيديولوجيا”، والكف عن تعمية الواقع عن الناس بالمفاهيم المعلبة.
ولتوضيح كلمة “أيديولوجيا فإنه وانطلاقا من الواقع الليبي يبرز لنا أن أبرز ما يشكو منه الفاعل الليبي هو غياب الرؤية، والرؤية بلفظ آخر هي الأيديولوجيا أي الإجابة عن السؤال دائم الحضور: إلى أين نريد أن نصل؟ وماذا بعد؟
ومهما كانت هذه الرؤية “إسلامية” أو “علمانية” أو غيرها فإنه وبهذه البساطة يتضح لنا أن المشكلة ليست في الأدلجة بل في عدمها، إذ أن “المؤدلج” أمكن وأقدر على القيادة وإدارة الواقع بما لديه من تصور للواقع وقدرة على فهمه، أي أن نقيض ذلك: “الإنسان الفارغ” الذي يمكن أن تعصف به رياح الاستراتيجيات الدولية المعقدة، والأفكار العولمية الشاطحة، فتهوي به وبدولته ومجتمعه في وادي التخلف السحيق.
“لكن يقال إننا لا نريد المؤدلجين بل الوطنيين، والبلد في حاجة إلى تكاتف الوطنيين” هنا يلزم فك الاشتباك بين الوطنية والأيديولوجيا بطرح سؤال والإجابة عنه: هل المؤدلج غير وطني والعكس صحيح؟ والإجابة أنه لا تلازم بينهما، فقد يكون المرء حاملا لأيديولوجيا ومفنيا عمره في سبيل وطنه في الوقت ذاته، بل إن مما يعينه على ذلك هو الرؤية التي عنده، والنموذج التركي أو حتى الأمريكي كأمثلة تحتذى ليست مجموعة دراويش من محبي الوطن الفارغين أقاموا دولا، بل أصحاب أفكار ناضلوا في سبيلها أعواما مديدة تظهر لنا في صورة دول عظمى اليوم.
لكن تراث الماضي في ليبيا يفرض نفسه، وإذا ذكرت الأيديولوجيا ذكر الإسلاميون وحدهم! الأيديولوجيا الإسلامية (الفزاعة): مع كثرة المدارس والجماعات الإسلامية حد العجز عن حصرها إلا أن الصورة النمطية التي ترسخت في أذهان الناس بفعل الإعلام فرضت نفسها، فإذا ما ذكرت الأيديولوجيا الإسلامية حضرت داعش والقاعدة وطالبان التي مدح أحدهم قصور فقهها السياسي، ولا تحضر النماذج الأخرى التي وصلت بسلمية إلى السلطة ومارست العمل المدني بكل سلاسة بل كانت أكثر وطنية في دولها من غيرها.
إن الحديث عن خطر الأيديولوجيا الإسلامية في ليبيا ليس إلا نفلا من القول؛ لأن من لم يلحظ الخطر الأكبر –الاستبداد والعمالة- اليوم فلن يلحظه في أي يوم. ظلت هذه الفزاعة تستحضر فترة من الزمن تستغفل بها الجموع وترهب بها “النخب” حتى إذا جاءت اللحظات الحاسمة تمايزت الصفوف وتكشفت النوايا، وظهر أن الوطنية ليست إلا ما ذكر على لسان بولتون: ذكر أن جون بولتون مستشار الأمن القومي –المقال- كان ينظر إلى أن أكبر تهديد في الأزمة الليبية ليس “الإرهاب” –لأن زمامه في أيديهم ربما- إنما هو الأيديولوجيا الإسلامية وتواجد الإخوان المسلمين في المصرف المركزي وأنه أصبح كبيت مال للتنظيم الدولي للإخوان.
هب أن هذه هي نظرة جون بولتون ووجهة النظر الأمريكية، هل نخضع لإرادة الخارج رغما عن مصالح الداخل، فأين الوطنية ناهيك عن الإسلامية. وقد ذُكر أيضا أن وجود الإخوان في المصرف المركزي بطرابلس يمنع من تحميل الدولة الليبية دينا عاما يبلغ 45 مليار دينار، منها 9 مليارات دينار تم تسييلها من قبل مركزي البيضاء لقوات المتمرد المعتدية على العاصمة.
المعيارية القاصرة: قد تقصر المعايير أحيانا فتستحدث أو يستنبط غيرها، ومثال على ذلك القصور الذي في قياس مدى الإسلامية بناء على كتب محمد بن عبدالوهاب، رغم أن الإخوان -كمثال يذكر دائما-لا يقيسون في أدبياتهم مدى إسلامية مجتمع ما أو دولة ما بمقدار ما يحفظون من “نواقض الإسلام”.
إننا بين تطرفين: تطرف “النخبة” وتطرف الهمل. فتطرف “النخبة” نوعان: نوع يميل إلى تسليم الدين للسلطة كأنه شيء من الأشياء، وابتعاد أصحاب الأفكار الدينية عن السلطة خوفا من على الدين كل بحسبه، ونوع يميل إلى إضفاء الطابع الديني الشكلي على كل شيء حتى ولو خالف مقصد الدين، لكن هي هكذا!
وأما تطرف الهمل فإنه يميل إلى النزعة الفردانية، وهو نوعان: فالأول أن تقيم الأركان الخمسة ولو تأمر عليك حفتر وأخرج جثة جارك من القبر وهدم منزل أخيك، تطرف يسكر بالدين من شدة ألم، أو ألم ندم إذا وقع ما وقع. أما الثاني فليس ببعيد فهو ينزع للفردانية أيضا، إلا أنه تواق للحرية لكنه يخشى على دينه فلا يريد خلطه بالسياسة “لأنها نجاسة” ويكره أصحاب الأيديولوجيا مهما كانوا، إلا أنه يفضل الأيديولوجيا العلمانية على غيرها.
الخطر الأيديولوجي أم الخطر الإسلامي: باعتبار أن الحاضر عند ذكر كلمة أيديولوجيا هم الإسلاميون، فإنه يجب أن نتذكر أن اختلاف التيارات السياسية والاقتصادية الأخرى مع الإسلاميين أيديولوجي، أي أن لهم أيديولوجيا خاصة بهم، ولذلك لمعرفة هل الخطر إسلامي أم أيديولوجي فإنه يجب تتبع مسارات هذه التيارات.
إن الخطر يكمن في التركيبة الفكرية –أي الأيديولوجيا- وليس أية أيديولوجيا، فمن يرضى بالاستبداد في مواجهة الإرهاب فإنه حامل فكر خطير، ومن يبرر الإرهاب والعنف غير المبرر فإنه حامل فكر خطير.
وقد رأينا “إسلاميين” دعموا الانقلاب عام 2014 كما دعمه “علمانيون”، وظهر أن الإرهاب دعمه حفتر مدعي الوطنية كما دعمه “إسلاميون”.
فخطر الذين يهاجمون فئة من المجتمع بقصد إقصائهم ومنع مشاركتهم في الشأن العام حالهم كحال الذين يهاجمون بالأسلحة، ونحن أحيانا لا نستطيع أن نفهم عمل أعدائنا إلا حينما يثيرون ضجيجا، كضجيج الدبابة والمدفع والطائرة، إن كثيرا من الأخطار أحيانا لا ينتبه لها إلا بعد فوات الأوان، لا لشيء إلا لأنها لم تثر ضجيجا.
الحل المأزوم: إن التحضر –نقيض البدائية-يعني أن تتعلم كيف تعيش في جماعة تؤدي فيها وظيفتك التاريخية أو رسالتك في الحياة، هذه الجماعة هي مجتمعك في حيك السكني، أو مدينتك، أو وطنك الذي تسكن. تخيل أنه طلب منك أن تترك هذا المكان ليأخذه غيرك فلا تتمكن من أداء وظيفتك ولا يؤديها غيرك، هي ذاتها أن تطلب من مجموعة منظمة من الناس أن تفعل ذلك في الدولة.
معلوم من هم أصحاب الروابط القوية من التيارات الليبية مع (قطر ، تركيا) أكبر دولتين داعمتين لليبيين في مواجهة الاستبداد والإرهاب، ومعلوم أن هذه الدول حاولت مرارا الانفتاح على كل التيارات ودعموا بعضها إلا أنه وكما قال أحدهم “دعموا ناس ما يستحقوش يقولوا لهم صباح الخير” واستمرت علاقة هذه الدول بامتدادها الطبيعي وهو التيار الإسلامي، الذي كون معهم ثقة ترى نتائجها في آفاق التعاون بين هاتين الدولتين والدولة الليبية.
إذن محاولة إقصاء مجموعة من إمكانية العمل السياسي باعتبار أن العالم لا يريدها، وإظهار أن المشكل الداخلي يكمن في ذلك، إنما هو تخل عن بعض الممكنات التي تكثر أو تقل حسب قوة المجموعة السياسية، وما هو إلا هروب من المشكل الداخلي الحقيقي، وهو الفساد والتبلد المستشري في الوزارات ومكاتب الدولة، وهنا ينبغي أن تكون المراجعات الداخلية.
ولكي نبني حلا صحيحا يجب أن نفهم ما ينقم أعداؤنا منا، بإدراكنا لواقع أن الذي أخفى سرقيوة إنما أخفاها لا لإسلاميتها، بل لسبب آخر: “صحوة وطنية متأخرة”.
ولتبرير انتقادك للإسلاميين ووجودهم بالدولة وطلبك أن يتركوها، لا يغني ولا ينصر وصفك لحفتر بـ “البغل العام”. وقد جرب المصريون حلا كهذا من قبل وقتلوا أسود بلادهم فأكلتهم كلاب أعدائهم.
وتلخيص القول: إن التنازلات لا تقدم بدون مقابل مضمون، وإن الحل الذي ينتج أزمات بعده ليس حلا بل مشكلة في حد ذاتها تتطلب الحل، والإقصاء مرض يستوجب الاستشفاء.
للكاتب الليبي: مفتاح العائب