تتفق وتتوالى تصريحات وبيانات الدول المعنية بالأزمة الليبية مؤكدةً على أنه لا حل لليبيا إلا الحلّ السياسي، غير أنّ هذه التصريحات كانت دوماً أقصى ما يقدّمه المجتمع الدولي الذي رعى الاتفاق السياسي وكان ضامناً لتنفيذه، أي أنه لم يوفِ بالتزامه لإنجاح الاتفاق مما أدّى إلى تنفيذ الاتفاق وجزئياً بسبب توفير بعض الدول الغطاء والحماية للأطراف المعرقِلة أن تطالها العقوبات أو تصبح في عزلة دولية، بل إن بعض الدول (وفي مقدمتها فرنسا) زادت من توثيق علاقاتها بالأطراف المعرقلة خاصةً حفتر وأقحمته في المشهد السياسي من خلال لقائيْ باريس.
وبالرغم ممّا اعترى الاتفاق السياسي من ضعف وإرباك في تنفيذه، فإنه استطاع أن يكون قاعدةً لعملية سياسية وإن كانت هشّة فإنّها أنهت الاقتتال والصراع المسلّح، وقطعت الطريق أمام المشروع الاستبدادي أن يتمدّد ليبتلع كل ليبيا بما فيها العاصمة طرابلس.
وهذا ما دفع كثيراً ممّن أسهموا في صنع الاتفاق السياسي أن يستمرّوا في المحاولة من خلال الأدوات السياسية المتاحة لإنهاء حالة الأزمة التي أنتجت شروخاً وانقساماتٍ على كل الصُّعُد والمستويات، وقدّموا في سبيل ذلك عديد المقاربات والتنازلات، مؤمنين أن مبدأ المشاركة السياسية يستلزم ذلك إعلاءً لمصلحة الوطن وعبوراً به من مضيق الأزمة إلى سعة الاستقرار، وبينما كان الليبيون يستعدون لعقد الملتقى الجامع والذي من المفترض أن يكون تتويجاً لجهود ما يقرب سنتين من الحراك السياسي، نسف حفتر بآلته العسكرية كل تلك الجهود، وليعود بالأزمة إلى مربّع الاقتتال والصراع المسلّح.
واليوم بعد مضي ما يزيد عن ستة أشهر من الحرب على العاصمة طرابلس وما حملته معه من معاناة وكوارث ومآسٍ، أصبح ظاهراً للجميع عجزُ حفتر وعصاباته عن الحسم العسكري، بل تضخّم سجلّه الإجرامي بما ارتكب ويرتكب من انتهاكات وجرائم كل يوم، وبدأت تتعالى الأصوات في المجتمع الدولي بضرورة استئناف العملية السياسية وإنهاء الاقتتال، وتطوعت ألمانيا لتنظم مؤتمر برلين المرتقب حول ليبيا، والذي سيسعى إلى تقريب وجهات النظر بين الدول المعنية بليبيا؛ لتكون أكثر التزاماً في دعم العملية السياسية وحل الأزمة من خلالها.
وبغضّ النظر عن فرص نجاح المؤتمر وإيجابية كون ألمانيا منظمة له، وما يتعلّق بالاجتماعات التحضيرية التي أجرتها أو ستجريها قبل المؤتمر لتحقيق الحدّ الأدنى من التوافق، فإن كلّ المعطيات الحالية تشير إلى إصرار الدول الداعمة لحفتر على مواقفها واستمرارها في انتهاج الازدواجية للتعامل مع الأزمة الليبية القائمة على خطابٍ سياسيٍّ يدّعي دعم الحل السياسي ويدعو إلى استئناف العملية السياسية، تناقضه ممارسة تتمثل في التمسّك بحفتر وتقديم الدعم العسكري له وتوفير الغطاء السياسي لجرائمه وانتهاكاته.
ومحاولة مصر إحياء برلمان طبرق الميّت بدعوة نوّاب عقيلة صالح إلى القاهرة مرة أخرى، وتأكيد وزير خارجية السيسي في كل محفلٍ دعم عصابات حفتر بذريعة محاربة الإرهاب، واستمرارُ تدفق الدعم العسكري والإعلامي من الإمارات إلى حفتر، وسكوتُ فرنسا عن انتهاكات حفتر وإصرارها على أن لقاء أبوظبي أحد ركائز العملية السياسية، كلّ هذه الأمور تؤشّر بوضوح إلى أن هناك توجهاً إلى محاولة إنتاج الفشل السياسي مرّة أخرى بمكافأة من نسف العملية السياسية ودمّر كل الجهود مؤكداً على أنه لا يؤمن بالحل السياسي، بمحاولة جعله جزءاً من الحلّ وهو أساس المشكلة.
المجلس الرئاسي الذي أعلن بشكل واضح تغيّر تعاطيه السياسي بعد الرابع من أبريل عما قبلها، وقدّم مبادرته السياسية، لازال يتعامل بنهج ردّات الفعل البطيئة وغير المؤثرة منتظراً من المجتمع الدولي أن يبادر إلى تغيير فواعل العملية السياسية مع أن إمكان حصول ذلك مستبعد حالياً حسب المعطيات، وهذا ما يدل على عجز واضح في تطوير الموقف السياسي وإخراجه إلى حيّز الواقع رغم الفرص المتاحة والآليات الممكنة، مع ازدياد ضعف الأداء الحكومي مما قد يؤدي إلى تخلخل الجبهة الداخلية وتزعزع الصف الوطني.
إن الأولوية الملحّة اليوم أمام المجلس هي بالتوجه إلى الداخل من خلال إحداث تغيير جذري في أداء الحكومة بتعديلها ومحاربة الفساد في مؤسساتها ودعم الجبهات وإعطائها الأولوية، ومعالجة الآثار المترتبة على الحرب في العاصمة طرابلس، والتنسيق مع مجس النواب بطرابلس والمجلس الأعلى للدولة لتطوير الموقف السياسية وتوحيد الرؤى، وإشراك القوى السياسية والمدنية في ذلك، وعذا من شأنه أن يخلق واقعاً سياسياً جديداً يفرض على المجتمع الدولي التعاطي معه بشكل مختلف.وأما الاستمرار في المهام البروتوكولية وعقد اللقاء وإصدار البيانات فليس إلا إمعاناً في الفشل وإهداراً لتضحيات الأبطال التي قدموها دماءً وأرواحاً وأشلاء.