في التاسع عشر من الشهر الجاري أعلن البنك الدولي عن استراتيجية جديدة لدعم ليبيا مركزة على استعادة مستوى مقبول من الخدمات الأساسية، وتحريك عجلة الاقتصاد.
بيان البنك الدولي أشار بوضوح إلى جانب من أهمية الاستراتيجية المخطط لها كونها تأتي كمساهمة حيوية في تنشيط العملية السياسية التي تشرف عليها البعثة الأممية، في ربط صريح بين المسارين السياسي والاقتصادي، ولهذا دلالته.
البنك الدولي في وضعه لهذه الاستراتيجية استجاب لطلب من حكومة الوفاق الوطني، ومع أن مهندس الربط بين التسوية السياسية والإصلاحات الاقتصادية مؤخرا هي البعثة الأممية وبالتحديد السيدة ستيفاني وليامز، إلا أنني لا أقلل من مساهمة حكومة الوفاق خاصة بعد أن التحق بها وزراء لهم معرفة امكانيات لحفز المنظمات الدولية المتخصصة للمساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد.
قبل أن نلقي بعض الضوء على الاستراتيجية من المهم الإشارة إلى مفارقة العلاقة مع البنك الدولي ـ وغيره من المنظمات الدولية المتخصصة ـ والتي مفادها أن ليبيا مساهم كبير فيها لكنها لا تتلقى الدعم الملائم.
البنك الدولي يصنف ليبيا من بين أكبر المساهمين فيه، مقارنة بحجم الاقتصاد طبعا، لكنها لا تستفيد من إمكانيات وقدرات وبرامج البنك، فقد كان أول برنامج دعم تتلقاه ليبيا من المنظمة الدولية الأكبر في مجال الاقتصاد عام 2009م.
ويعود الخلل بالأساس إلى رؤية النظام السابق الذي حكم ما يزيد عن أربعين سنة وتبنى مقاربة اقتصادية تجافي خطط المنظمات الدولية الاقتصادية والمالية بل تصنفها كأدوات هيمنة “إمبريالية” على ثروات الدول الصغيرة.
تعاون يشوبه الضعف
عود على الاستراتيجية الجديدة، وربطا بمشاركة البنك في خطط النهوض الاقتصادي، فإن خطة العام 2009 لم تنجح، وقد أعاد البنك الدولي السبب إلى عدم جدية السلطات الليبية في التعاون معه.
نشاط البنك صار أكثر حيوية بعد الاستقرار الذي أعقب الثورة عام 2012، حيث دخل البنك في حوارات مع وزارة الصحة والمؤسسات الاستثمارية المحلية والخارجية كالصندوق السيادي المحلي ومحفظة أفريقيا والمؤسسة الليبية للاستثمار وقدم لها دعما فنيا.
إن التشبيك مع البنك الدولي مهم لعدة اعتبارات، منها عودة بعض الثقة في الوضع الليبي وتشجيع المنظمات الدولية والشركات الاجنبية على التقدم خطوة على مسار التعاون الايجابي مع السلطات الليبية
كان نشاط البنك مع الحكومة خلال العام 2013 ـ 2014م منصبا على تطوير القدرات المؤسسية “Institutional Capacity Building”، غير أن الجهود لم تستمر وذلك جراء الصراع الذي اندلع والانقسام الذي حير المنظمات الدولية وجعلها توقف كافة نشاطاتها في البلاد.
ملامح الاستراتيجية الجديدة
البنك في استراتيجيته الجديدة خلال الثلاث سنوات المقبلة، سيركز على تحسين الخدمات العامة في مجالات الكهرباء والصحة والتعليم في أولى ركائز الاستراتيجية، أما الركيزة الثانية التي توليها الاستراتيجية اهتماما كبيرا فتعنى بإنعاش الاقتصاد الليبي من خلال تطوير قدرات الحكومة في إدارة الإيرادات العامة وتطوير القطاع المالي والمشاركة الفعالة للقطاع الخاص.
وتجعل الاستراتيجية الشفافية والمساءلة “transparency & accountability” معيارين أساسيين في تقييم أداء الحكومة خلال الإطار الزمني الاستراتيجي وما بعده، وبحسب الاستراتيجية فإن هذه الركائز محورية في استعادة ثقة الرأي العام التي هي عامل جوهري في تحقيق الاستقرار.
وتضع الاستراتيجية في الحسبان ما تسميه الاهتمام بالمجموعات المهمشةُExcluded Groups” ” وهم الشباب والنساء والمهجرين داخليا، لضمان أن يدمجوا في برامج الحكومة وتصلهم الخدمات الأساسية أسوة بغيرهم.
وبحسب المسؤول عن الملف الليبي في فرع البنك الدولي في المغرب العربي ومالطا، فإن الاستراتيجية تأخذ في الاعتبار أزمة المهاجرين غير الشرعيين من باب أن التحسين في الخدمات وأن تحريك عجلة الاقتصاد سيعود بالنفع على المهاجرين من خلال تقديم مستوى خدمات ملائم في ليبيا.
استراتيجية وطنية قبل الاستراتيجية المستوردة
في تقييم الاستراتيجية أقول إن التشبيك مع البنك الدولي مهم لعدة اعتبارات، منها عودة بعض الثقة في الوضع الليبي وتشجيع المنظمات الدولية والشركات الاجنبية على التقدم خطوة على مسار التعاون الايجابي مع السلطات الليبية، أيضا الدعم الفني جيد في ظل ارتباك الحكومة ووقوعها في كماشة الأزمة السياسية إلى درجة كبيرة.
غير أن التجارب المتكررة تجعلني أحذر من ضياع الوقت والجهد إذا لم يتم التعامل مع الاستراتيجية وفق إطار تخطيطي وعملياتي وطني أوسع وأكثر فاعلية، فأن تعول على خبراء مدفوعة أجورهم بسخاء معتقدا أنهم يمكن أن يقدموا حلولا سحرية تنقل الاقتصاد المنهك والمشلول إلى التغير والاستقرار في البلاد هو ضرب من العجز وأقرب إلى سياسة ذر الرماد في العيون.
تحسين الخدمات العامة وتحريك عجلة الاقتصاد ليس أمرا معقدا ويحتاج إلى عقل جبار لوضع تصورات لمعالجتها، بمعنى أن المشكل ليس نظريا، بل يكمن في إزالة العوائق التي تقف ضد أي خطة لتحسين الخدمات وتنشيط الاقتصاد.
ومع ذلك أقول أن الاستراتيجية يمكن أن تحقق نتائج لكنها ستكون محدودة جدا، وذلك من خلال حث الحكومة على توجيه بعض إنفاقها الكبير بشكل مركز وفعال صوب الخدمات الأساسية، والتفكير الإبداعي في مجابهة عوائق الاستفادة من هذا الإنفاق.
أما النتائج الأفضل فهي لصيقة باستراتيجية محلية واقعية مبتكرة يتحقق فيها مستوى مقبول من التوافق الوطني حتى في ظل استمرار الخلاف السياسي، وهذا في رأيي ممكن، وإذا وقع فيمكن أن يكون عاملا في تقريب التسوية السياسية، دون أن يلغي أهمية التوافق الشامل لأن استمرار غيابه يمكن أن يقوض أي نجاح على المسار الاقتصادي.
المصدر: العربي 21