كانت قناعة صناع اتفاق الصخيرات تقول بحتمية انتهاء الاحتراب والنزاعات المسلحة، عاجلا أم آجلا، طال الزمان أو قصر، وأن حسما عسكريا بـ “خشم” البندقة لن يحققه أي من أطراف النزاع الدامي، وأن الاستمرار في نفس نسق الأحداث لن يخدم مصلحة البلد ولا أي طرف من تلك الأطراف، إذا عقلا وسياسة يجب إيقاف النزف المستمر، وتوفير أرواح الشباب ودماء الأبرياء في حرب عبثية صبيانية.
وقالوا هذا بصراحة وصدق لكل الفرقاء، حيث تفهّم بعضهم الموقف، ومن أين يخرج هذا التأطير للمشكلة الليبية آنذاك!، وتعنتت فصائل أخرى كان بعضها يغريها الدعم الوفير الذي وُعدت به من الظهير الإقليمي العربي، والبعض الآخر يستفزه الإفتاء الديني الدموي، الذي كان يصور لهم أن هناك حربا باسم الإسلام في بنغازي ودرنة والهلال النفطي!.
بينما رفض صناع الاتفاق السياسي هذه المعادلات العدمية الصفرية جملة وتفصيلا، وكان واضحا كل الوضوح في تصوراتهم أنه ” لا بديل يحافظ على البقية الباقية من الهيئة الاجتماعية الليبية سوى الانحياز الكلي والتام لتعزيز خيار الدولة، ورفض بدائل الفوضى سواء استمرار الاحتراب أو حكم العسكر المنخرطين في الفوضى أنفسهم”، ومن هنا نشأت قاعدة الفهم المشترك بين الأطراف المحلية التي ساهمت في صناعة اتفاق الصخيرات، لتتقاطع مع إرادة المجتمع الدولي الذي دعم هذا التوجه بشكل واضح ومستمر حتى اللحظة الراهنة، ولكنه يعوِّل على أن يفيق الرأي العام الليبي ويدعم اختيار السلم والانحياز المجتمعي إلى تعزيز خيار الدولة ضد تيار التأزيم والفوضى من طرفي النزاع الدامي، الذي ورط الشباب اليافع في أتونه واستخدمه حطبا لنار تلظى تأكل الأخضر واليابس، ثم نبذوهم محطمين محبطين بعد أن كشفت لهم الحرب عن ساق وخمشتهم بمخلب وعضتهم بناب.
وكأي عملية سياسية، تنطلق بحيوية وبحبكة كاملة من الأطراف الفاعلة، ثم مع الوقت تفقد الكثير من لمعانها وبريقها ليس لضعفها الذاتي ولكن بتأثير عامل الوقت نفسه، وتحت وطأة المستجدات وإصرار المعرقلين في الطرفين على التمسك بخيار الاحتراب وعرقلة خيار الاتفاق السياسي، عبر مؤسسات دينية بخطاب فقه الدم، وما يدعمها من قنوات تابعة لها تروج لخطابها وتلمعه لدى شيعة المفتى وأنصاره، ومؤسسات إعلامية تابعة للمشير وشيعته هو الآخر، والتي لطالما تسترت وراء دعوى محاربة الإرهاب مستغلة إياها في محاربة الخصوم السياسيين وشيطنتهم لدى الرأى العام وعلى رأسهم المجلس الرئاسي ورئيسه، وهنا تتفق فتوى دار الإقتاء مع الأوامر اليومية للرجمة، وتسكت معهم قيادات تنظيمات دينية عريقة أخرى وقياداتها ورموزها، إلا ما شاء الله.
وهنا لا يكتم صناع السلم رأيهم ولا يخفون شيئا بل يتكلمون بصراحة كلمة واجبة في حقهم، لله أولا ثم للوطن وثالثا للتاريخ، إن اتفاق الصخيرات عبارة عن مقاربة سياسية بين ليبيين متنازعين نزاعا مسلحا، ومحاولة بالغة الصعوبة لنقلهم نقلة نوعية من النزاع في الساحات والمحاور و”التبّات”، وانتشال الشباب الليبي من فوق “التبّات” ووسط البارود والنار، إلى طاولة السياسة، ومهما كانت طاولة السياسة لا تحقق النصر الكامل لأي طرف من الأطراف، إلا أنها توفر مخارج آمنة للجميع بدون استثناء، وضرب لذلك مواعيد، أسقطت الجينات السابقة والتي وقعت أثناء الاشتباك، وأوقفت مشروعية كل القرارات التي سبقت التوقيع على الاتفاق، وقالت بضرورة مراجعتها مرة ثانية في ضوء معطيات وسياسات وروح وتوجهات وبنود وآليات الاتفاق السياسي.
أما وراء ذلك فلم يعطِ الاتفاق ولا المتفقون أي ضمانات سياسية لأي طرف من الأطراف بعد الدستور والانتخابات، سوى شيء واحد فقط، وهو تكافؤ الفرص، وشفافية الانتخابات، وقدرة الجميع على المشاركة إلا من يختار لنفسه الانطواء والانكفاء على نفسه والعزلة، فهو وما يختار لنفسه، أما من يريد المشاركة فليس هناك من مانع يمنعه، وسيكون وزنه وحضوره بحسب ما يمنحه الشارع من ثقة ويسكب في صندوقه من أصوات، أما المحاولات الصبيانية المشككة في ذلك والمروجة للقول بأن المجتمع الدولي يريد من وراء الاتفاق السياسي إيجاد حكومة ضعيفة كي يتخذها ذريعة للتدخل المباشر في ليبيا وفرض الوصاية عليها، فهو كلام عارٍ عن المنطق السياسي المواكب لكل ما صدر عن المجتمع الدولي تجاه المسألة الليبية منذ ( 1949- 2018 ).
\فالاتفاق واضح والداعمون له واضحون سواء الأطراف المحلية أو المجتمع الدولي، وليس هناك حرف واحد في الاتفاق ضد المصالح الحيوية الليبية، بل تأكيد واضح على السيادة الليبية بشكل قطعي وواضح كل الوضوح، ولكن الذي يفوت تيار التأزيم هو أنك ـ يا كبدي ـ لا تلعب في عالم منفرد فيه باللعب، هناك حوض البحر المتوسط، وكما أنك تتموقع على ضفافه الجنوبية فهناك ضفاف أخرى له شرقا وشمالا، وشركاء معك في الاستقرار والأمن، لن تتركك تسرح وتمرح حتى يأكلك الذئب حقيقة لا كذبا كذئب أخوة يوسف عليه السلام، فلا تظن أن ما تفرط به في داخل ليبيا لا ينعكس قلقا وتوترا وإرهابا لدول الجوار، فعليك أن تنتبه وتتعقل وتفهم، وتتخلى عن خطابك الديني المضلل للشباب، وخطابك العسكري المضلل للشباب، وإلا فالعاقبة ستكون وخيمة على الجميع، ولن يكون لك مخرج آمن بعدها، ولات حين مندم!