على غير العادة، شاهد الليبيون تقاربا كبيرا بين مجلسي النواب والدولة في محاولة للاتفاق على إعادة هيكلة السلطة التنفيذية، التي أجمعوا على أنها ضعيفة ولا تلبي طموحات المواطن ولا ترتقي إلى مستوى التحديات التي تهدد البلد داخليًا وخارجيًا.
ولا يختلف اثنان على أن الرئاسي وحكومته ضعيفة، كما لا خلاف على أن “النواب” و”الدولة” لم يتفقا على أي شيء سابقًا، ويُستبعد أن يتفقا لاحقًا؛ إلا أنهما يُسابقان الزمن ويلتقيان في الداخل والخارج لتقليص المسافات وحرق المراحل، على الرغم من أن اعتراف مجلس النواب بمجلس الدولة يخفت ويعلو حسبما تقتضيه المصلحة.
هذا الحراك غير المسبوق يراه البعض سعيًا من المجلسين للبقاء في السلطة، وهو ما يتناغم مع تصريحات المبعوث الأممي غسان سلامة بوصف من انتخبوا في 2012 و 2014 بأنهم يسعون إلى البقاء في السلطة إلى أبد الأبدين، متمسكين بكل ما يبقيهم في المشهد دون أن يقدموا معالجة للأوضاع الراهنة.
تصريحات سلامة لم تتجاوز الدبلوماسية بقدر ما عكست حقيقة الواقع المغلَّف بالوطنية، واقعٌ مؤلمٌ جعل آلام الشعب وآمالهم بين أيدٍ مختلطة من سياسيين وصعاليك ولصوص يصعب التفريق بينهم، يعيشون من رغد الشعب المسحوق في فنادق وشاليهات دول مجاورة، وينعمون بعشرات الآلاف من الدينارات مقابل سرقة أموال البلد والعبث بحاضره ومستقبله، مع إغراقنا طوال الوقت بعبارات الإدانة والشجب والاستنكار والقلق.
تصريحات سلامة استنكرها ثلة من النواب والمجلس الأعلى للدولة مجتمعين، والأخير يدرك ويعي تماما أن انتهاء دور مجلس النواب هو انتهاء لدوره أيضًا، ومخاوفهما ازدادت بتحركات البعثة الأممية الأخيرة الداعمة لرئاسي الوفاق، والترحيب بتعديلاته الوزارية، والتلويح ببدائل لتخطي الجمود الراهن، وهو بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على المجلسين، سواء أكان ذلك بالعودة إلى أطراف الحوار طبقًا للمادة 64 من الاتفاق السياسي مع توسيع دائرة التشاور مع أطراف أخرى، أو بإجراء انتخابات على قاعدة دستورية، أو بالذهاب للمؤتمر الجامع لكافة الأطراف لتتفق من خلاله على خارطة طريق تتخطى الأجسام القائمة، وتعقيدات المرحلة، وتنقل بالبلد إلى مرحلة جديدة.
مجلس النواب الذي يسعى الآن لتعديل الاتفاق السياسي، هو ذات المجلس الذي لا يعترف بالاتفاق ولم يضمّنه في الإعلان الدستوري، ونذكر كما يذكر كل المتابعين للشأن السياسي أن مجلس النواب لم يقدم شيئا منذ انعقاده بالمخالفة في أغسطس 2014، وحتى بعد ولادته الجديدة من خلال اتفاق الصخيرات بقى جسمًا معرقلا لكل التسويات، ودعم المؤسسات الموازية، وزاد من حدة الأزمة بدلا من إيجاد حلول لها، فالتاريخ سجل عرقلة رئيسه “عقيلة صالح” لقطار الحوار منذ انطلاقه من غدامس كما هو حال رئيس المؤتمر الوطني “نوري أبوسهمين”، وكيف لعب النائبان “صالح المخزوم” و “امحمد شعيب” دورًا وطنيًا في ظل مرحلة صعبة، علت فيها أصوات رواد الحروب والمقتاتين على دماء الليبيين، وتحمّلا كلاهما الكثير من المتاعب، وخاضا غمار التحديات، وأنجزا التوقيع على اتفاق بين طرفي الصراع، واستكمل المخزوم استحقاقات ما بعد التوقيع بأن عقد جلسة للمؤتمر الوطني العام الذي عدّل الإعلان الدستوري ودخل في إطار الاتفاق تحت اسم المجلس الأعلى للدولة، وبهذا تجاوز الزمن المؤتمر ورئيسه ليصبح من الماضي، في المقابل تخلّف شعيب عن دوره ورمى الكرة في ملعب عقيلة صالح الرافض للحوار والاتفاق أساسًا، وفضل شعيب الهروب من المشهد بالاستقالة.
مع كامل احترامنا لنواب الشعب إلا أن مجلسهم مسلوب الإرادة، تارةً يختزل قراره عقيلة، وتارة أخرى يُمنع من الانعقاد بسلطة العكوز، فمن يريد أن يتفق مع المجلس عليه أن يختصر الطريق ويبحث عن موافقة ثنائي الحكم “عقيلة” و”حفتر” باعتبارهما يخضعان لأوامر دول تتحكم فى جزء من المشهد الليبي، وهما الواجهة المحلية لتلك الدول التي لا تريد استقرار ليبيا إلا حسب تفصيلها.
اليوم نفد صبر المجتمع الدولي من مجلس النواب المتشظي والمتخبط والمعثر لأيّ جهود للتسوية، فتجاوز سلامة التلميح الدبلوماسي فكانت تصريحاته واضحة جلية بتجاوز هذا المجلس، والتركيز على المجلس الرئاسي وحكومته لتهيئة المناخ للانتخابات بضبط الأمن وتحسين الأوضاع الاقتصادية؛ لهذا تُولِي البعثة أهمية قصوى للإصلاحات الاقتصادية وتنفيذ الترتيبات الأمنية، وتولي دعماً واهتمامًا بالغين بتقوية السلطة التنفيذية؛ لأنها على علم بضعفها وقلة خبرتها، وأنها تمثل نواة باتجاه بناء دولة مدنية حديثة، كما أن المجتمع الدولي يتضرر من استمرار الفوضى والفراغ الأمني الذي يسمح بتمدد التنظيمات الإرهابية، ويزيد من موجات الهجرة غير القانونية، فتتقاطع مصالح المجتمع الدولي مع مصالح الليبيين في تحقيق الاستقرار والسلام.
ومع هذه النتيجة التي تؤكد على تهميش دولي لمجلس النواب، وانتهاء مهمة حفتر في محاربة الإرهاب في منطقة نفوذه، مما جعل كلا من عقيله وحفتر أكثر مرونة وانفتاحا بالداخل مع خصوم الأمس إن لم نقل أعداءهم، فيتسابقان لعقد لقاءات وتفاهمات محاولةً منهما لتحقيق أي تسوية تضمن لهما دورا في المشهد القادم.
حلم مجلس النواب يحتاج تقاربا مع شريكه السياسي مجلس الدولة ليتحقق، إلا أن التاريخ القريب يقول إن التجربة تتكرر بنفس الأدوات وإن تغيرت أسماؤها، فالنائب الأول بمجلس النواب “فوزي النويري” سيتعرض لما تعرض له زميله السابق “امحمد شعيب” ولن يفلح فى لملمة أعضاء المجلس وجمعهم فى جلسة حتى ولو كانت فى مطبخ المجلس كما فعل زميله، في حين أن عقيلة مستمر في المراوغة ولا يريد أن يحسم أي قرار وملتزم بتعليمات من يتحكم فيه، وسنجد أنفسنا أمام إعادة لمسرحية هزلية.
كل هذا يؤكد أن المشهد فى ليبيا هو مشهد شائك في ظل استمرار هذا الواقع الذي فرض نفسه بعد مسيرة عبثية وشطحات يغلب عليها الأنانية والتصلب وراء مواقف يدفع ثمنها الوطن والمواطن؛ فلعل أنينه وأوجاعه توقظ المجلسين من غفوتهما وتقطع أحلامهما بالاستمرار فى الجلوس على كراسيهم والبقاء فى مناصبهم.
بكلمة أخيرة أنصح المجلسين بالرحيل عن المشهد، قبل أن يدفعهم الشعب إلى ذلك.