Menu
in

الهجوم على طرابلس… محاولة انقلاب أم فرصة للتصحيح؟

تحدثتُ في “تقييم الحالة” الذي نَشرَتهُ شبكةُ الرائد الإعلامية تحت عنوان مشهد الصراع على العاصمة طرابلس: السياقات والمآلات؛ عن خلفيات الهجوم على العاصمة والمشاركين فيه، ومحددات المشهد العسكري والسياسي والدولي. وخلصتُ إلى أربعة سيناريوهات متوقعة، الأول: بقاء الحال على ما هو عليه وهو خيار مستبعد، والثاني: حل المليشيات بقرار جريء، والسيناريوهان الثالث والرابع يتفقان في توقع سيطرة المجموعات المهاجمة على العاصمة، ويختلفان في موقفها من الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي.

كما ذكرت في التقييم المشار إليه أعلاه فإن أهداف المهاجمين بعضها معلن، وبعضها الآخر مبطن، مع وجود بعض الغموض الذي أشغل الرأي العام وبالذات المحلي، وهو ما سنحاول في هذه العجالة أن نجليه من خلال المعطيات التي أفرزتها اشتباكات الأيام الستة التي عاشتها العاصمة الليبية طرابلس.

وقف إطلاق النار

من المؤسف أن تصل الحالة الليبية إلى الحد الذي يضطرنا إلى طرح بعض الأطر لإنهاء الحرب، وهي: التهدئة، والهدنة، ووقف الأعمال العدائية.

فهناك التهدئة وهي وقف إطلاق النار مدة زمنية محددة تتناسب مع الضرورات الإنسانية والميدانية، وفي الغالب بين أعداء، قد يكونون إرهابيين، وليس بين متفاوضين تجمعهم عملية سياسية!

وهناك الهدنة، وهي وقف إطلاق النار لمدة محددة بين أطراف ليسوا بالضرورة أعداء، وهذا المصطلح يعدّ اعترافاً ضمنياً لكل طرف، بأن لديه شرعية وهو ندٌّ للطرف الآخر.

حالتا التهدئة والهدنة، كلتاهما لا تنتهيان باتفاق سلام بين الأطراف، وتُستأنف الحرب مباشرة بعد انتهاء المدة الزمنية المحددة إذا لم يجرِ تجديدها.

أما وقف الأعمال العدائية كوقف إطلاق النار لمدة تستمر فيها المفاوضات التي قد تُفضي إلى اتفاق سلام يُنهي حالة الحرب بين الأطراف.

القوات التي هاجمت/دخلت العاصمة

لا شك أن الهجوم على العاصمة كان خطأً وخطيئة، وكان كارثياً، وتتحمل القوات المهاجمة مسؤولية القتل والتدمير والرعب الذي نشرته في العاصمة، قانونًا وشرعًا، وتتحمل أيضا مسؤولية الفراغ الأمني الذي استغلته العصابات المجرمة في السرقات والتعدي على الأملاك الخاصة والعامة، وبالرغم من ذلك فإنه لا يجب أن يثنينا عن النظر بموضوعية إلى مآلات الهجوم.

القوات الرئيسة التي هاجمت أطراف العاصمة هي اللواء السابع (الكانيات) وبمساندة لواء الصمود (صلاح بادي)، الأمر الذي اضطر المجلس الرئاسي، بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي، إلى أصدار أوامره بتدخل قوات فض النزاع من المنطقة العسكرية الغربية والوسطى وقوة مكافحة الإرهاب. كما أن وزارة الداخلية طلبت من قوات “جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية”، التدخل في منطقة غرب جنوب طرابلس لبسط الأمن وحماية الممتلكات. وفي المقابل، لم تستطع قوات المنطقة العسكرية الغربية والمنطقة العسكرية الوسطى الدخول لفض النزاع طبقا لقرار القائد الأعلى، وذلك لعدم صمود الهدنة وتجدد الاشتباكات، الأمر الذي أدى إلى تدخل بعثة الأمم المتحدة ودعوة الأطراف إلى اجتماع عاجل في مدينة الزاوية بهدف التوصل إلى وقف لإطلاق النار، بناء على توجيهات الأمين العام لمجلس الأمن.

اتفاق الزاوية

دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم جميع الأطراف المتحاربة وحكومة الوفاق، والقوات التي أسند إليها عملية فض النزاع، إلى لقاءٍ جمعَهُم في مدينة الزاوية يومَ الثلاثاء الماضي، حيث جرى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، تعهد الموقعون فيه إلى وقف جميع الأعمال العدائية، وعدد من الالتزامات الأخرى منها: عدم التعرض للمدنيين، وتجنب المساس بالأملاك العامة والخاصة، وإعادة فتح مطار معيتيقة، وفتح كافة الطرق في العاصمة طرابلس، وعدم إعادة تموضع القوات المتحاربة ووقف الإمداد، وإلزام جميع الأطراف المشاركة بهذا الاتفاق.

في حالة التزام الأطراف بالبنود المذكورة في اتفاق وقف إطلاق النار، فإن البعثة ستقوم بحوارٍ آخر لبحث الترتيبات الأمنية، التي طالبت بتنفيذها العديد من الأطراف السياسية.

اللواء السابع

اختلفت الآراء حول الهجوم على العاصمة من قبل اللواء السابع الذي قدم نموذجاً جديداً لم يكن موجودًا عند أي من الأطراف المتنازعة على السلطة في ليبيا. استطاع اللواء صَهْرَ شركاء (متنازعين سابقًا) تحت مظلته؛ حيث جمع ثوار فبراير سواء ممن ينتمون لقوات فجر ليبيا أو لقوات الكرامة، مع قوات تنتمي لبقايا كتائب القذافي.

من الواضح أن اللواء خطط للعملية بشكل واضح، فكان ظهوره الإعلامي مدروسًا، وكذلك رسائله وأهدافه المعلنة مرسومةً بعناية وتخطيط دقيق. كما أنه، في غياب الدعم من حكومة الوفاق بل وقرار حله الذي صدر قبل أشهر، يُعتقد أن اللواء السابع قد تَحصَّلَ على دعم من عدة أطراف.

وهناك العديد من الأسئلة المشروعة، منها: هل الدعم الذي تحصل عليه اللواء السابع محلي أو إقليمي؟ وهل هناك دعم من حفتر؟ وإن صح ذلك فما تفسير انضواء صقور فبراير من الساسة والمقاتلين، مثل لواء الصمود، تحت مظلته؟ ولماذا تجاهلت القنوات التابعة لحفتر الهجوم وكذلك الرافضة للاتفاق؟ أين المسماري وأين العواجل في هذه القنوات؟ هل الجيش النظامي قيافة ورتب أم تراتبية وشرعية؟ كيف يمكن الجمع بين تبعية اللواء السابع لحكومة الوفاق وبين حل اللواء وإدانة المجلس الرئاسي لهجومه على العاصمة؟

حصر اللواء السابع خصومه فيما أسماهم “ناهبي المال العام”، ولم يتوسع في الخصومة، ولم يسيسها حتى الآن. بالرغم من وجود نوع من التسييس عبر الحديث عن استئناف المؤتمر الوطني العام عمله من جديد، وتعاطف المعارضين للاتفاق السياسي مع هذا الهجوم. هنا لا ننكر أن اللواء السابع سوَّق نجاحاته في ترهونة والقره بوللي بين الرأي العام في طرابلس على أنه يسعى لبناء الدولة، وعودة مؤسساتها للعمل، ولمحاربة الجريمة والفساد والإرهاب.

ولكن هذه النجاحات المحدودة، وتقديم نموذج دمج “الإخوة الأعداء”، بالرغم من الحاجة إليه، وافتقاد الفرقاء الآخرين إليه، إلا أنه يفتقد الشرعية السياسية والعسكرية، ومما شاع وساد بين الناس أن اللواء السابع اختصر الدولة في ذاته والمناطق التي سيطر عليها، وأصبح هو الشرعية وأخذ القانون في يده، وارتكب انتهاكات، وأصبح بحكم الواقع الخصم والحَكم.

قوات مكافحة الإرهاب

قررت مصراتة هذه المرة، وبذكاء شديد، اختيارَ مَن يمثلها، ورفضت أن تشارك في الحرب، وأصرت على إصدار تكليف رسمي من رئيس المجلس الرئاسي، وظهرت بمظهر الدولة وبقيت قريبة من العاصمة، وتواصلت مع الحواضن الاجتماعية من أجل تحديد مهامها بدقة، حتى لا تكون جزءا من الصراع الدائر في العاصمة، وبذلك نجح جهاز مكافحة الإرهاب من فرض تعريف تدخل مصراتة من خلاله لا من خلال لواء الصمود المنضوي تحت قيادة اللواء السابع.

بدخول قوات مصراته للعاصمة، شاعت في العاصمة أجواء تفاؤل كبير بين الناس، ولاح في الأفق بارقة أمل بقرب انتهاء القتال في العاصمة، وأحدث وجودها بالقرب من العاصمة توازناً كان مطلوباً، وتحكمت بذلك في الشكل النهائي للصراع، وحددت سقف طموح كل الأطراف، واستبعدت غول الفوضى، وهو سيناريو خطط له الطرف الثالث الذي حاول إشعاله من خلال القصف العشوائي، الذي طال العديد من الأماكن داخل طرابلس.

قوات جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية

دخول كتائب الزنتان من خلال جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية، جاء في لحظة مهمة وحاسمة بالنسبة للمجلس الرئاسي ووزارة الداخلية والمنطقة العسكرية الغربية، الذي قرر آمرها إلغاء تدخله للفصل بين المتقاتلين، وفض النزاع جنوب طرابلس.

قام الرائد عماد الطرابلسي، رئيس جهاز الأمن العام والتمركزات الأمنية الذي دخل العاصمة بتكليف رسمي من وزارة الداخلية، بملء الفراغ الأمني الذي دخلت فيه مناطق غرب العاصمة، فسارع إلى إجراءات المجاهرة بالأمن للحد من التجاوزات الأمنية التي شهدتها تلك المناطق. وهو بذلك حجز مكانًا متقدمًا لتشكيل صورة ذهنية جديدة، واستثمر اللحظة السانحة التي ستساعد على طي صفحات الماضي القريب في الذاكرة الطرابلسية الحاضرة على أقل تقدير.

الترتيبات الأمنية

اتفاق وقف إطلاق النار الموقع عليه من الأطراف التي أشرت إليها أعلاه سيكون منصبًّا على الدخول في “مرحلة ما بعد المليشيات”، وهي مرحلة مهمة، ولكنها لن تؤتيَ أكلها إذا جاءت أحادية، أي المطالبة بحل المليشيات دون مطالبات أخرى لا تقل أهمية عنها، وهي مطالب مهمة وضرورية للتوجه نحو بناء الدولة على كامل التراب الليبي.

لا شك أن الهجوم على العاصمة قد سالت فيه الدماء، ولا يجب أن تذهب هذه الدماء دون تحقيق تقدم يخدم مسار بناء الدولة، والتخلص من كل أعباء أزمات المراحل الانتقالية العصيبة السابقة. لربما الهجوم على العاصمة قد غيَّر المشهد، وكأن الزمان قد استدار كهيئته أيام صيف 2014 الساخن، وهل هذا المشهد قد أمدّ حفتر بموطئ قدم في العاصمة أم أن كل ما حدث فرصة للتصحيح؟.

كيف يكون الحل في هذه المرحلة العصيبة؟

يجب أن تتوفر لدى الأطراف حسن نوايا للحل، ومن هنا لا بد من:

  1. حل كل التشكيلات المسلحة بحيث تؤول آلياتها وأسلحتها وما لها وما عليها إلى المنطقة العسكرية “طرابلس”، وتوجيه أفرادها إلى وزارة الداخلية أو رئاسة الأركان لإعادة تأهيلهم بالنسبة لمن يرغب في العمل الأمني أو العسكري، أو إلى (البرنامج الليبي للإدماج والتنمية) لمن يرغب في العمل المدني.
  2. إعادة هيكلة كل القوات التي هاجمت أو التي دخلت العاصمة على أسس مهنية ووطنية، ورفض وضعها الحالي المبني على أسس مناطقية أو جهوية أو قبلية، وكذلك رفض بنائها على أسس مشاريع إقصائية كفجر ليبيا أو الكرامة أو فبراير أو سبتمبر أو على أسس أيديولوجية.
  3. من الضرورة استيعاب قوات الكرامة على أرضية توحيد الجيش، وتخلي حفتر عن مشروعه العسكري، الذي يهدف إلى السيطرة من خلال الحسم العسكري المستحيل والمستبعد، وعلى أسس ابتعاد مؤسسة الجيش عن السياسة. ويمكن أن يحقق حفتر طموحه السياسي من خلال الآليات المحددة في الدستور الذي يختاره الشعب الليبي.
  4. لا بد من الإسراع في إجراء تغيير في المشهد السياسي، والتوصل إلى حل يتجاوز المعرقلين من بوابة المادة (64) من الاتفاق السياسي، والعمل على إحداث تغييرات سريعة تخفف من حدة التوتر، وتضع الأرضية اللازمة لمصالحة شاملة وعفو عام، وتمهد الطريق للاستفتاء على دستور دائم للبلاد، تجرى الانتخابات على أساسه.

الهجوم على العاصمة قلل من فرص نجاح الحسم العسكري في حل الصراع في ليبيا، كما أن المشهد السياسي أصبح أكثر وضوحاً، وربما تسهم الأحداث الأخيرة في إبعاد كل الشخصيات الجدلية التي لا يجب أن يكون لها موطئ قدم في المرحلة القادمة التي تحتاج إلى وجوه جديدة، تساهم في بناء مشروع وطني جامع، يجمع ولا يفرق ويبني ولا يهدم.

الكاتب :عضو المجلس الانتقالي السابق عبد الرزاق العرادي

شبكة الرائد الإعلامية

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version