Menu
in

تجريدة خليفة وصفقة القرن

قد يرى البعض في هذا المقال تحليلا مجنحا بعيدا عن الواقع، ولا تسنده المعطيات الحقيقية في الأرض الليبية، كما أن الرؤية الغربية لأدوار اللاعبين الصغار تأبى بعض نتائجه.

ومع كل ذلك فأنا أرى أن هناك بعض المؤشرات التي لا يمكن إغفالها، تصب في اتجاه مساره العام، والسيناريوهات التي يطرحها تجد الكثير مما يصدقها في توجهات أو مطامح بعض القوى المأزومة والفاعلة في الشأن الليبي.

التجريدة الأولى

يستوحي المقال جزءا من عنوانه من “قصة مؤسسة” في التاريخ الليبي الحديث، يعرفها المهتمون بالتاريخ الليبي، وقد اشتهرت على ألسنة الليبيين، وروتها الأجيال للأجيال.

ومع أنه يمكن القول إن بعض التفاصيل التي تروى في التاريخ الشفهي خيالية، أو يدخل الخيال في صياغتها، إلا أن أصل القصة صحيح معروف.

تنسب التجريدة إلى بطلها “حبيب” وهو رجل من قبيلة العبيدات ذات الحضور القوي تاريخيا في منطقة برقة، وفي ليبيا عموما.

تروي القصة الفصل الأخير من صراع قبائل الحرابي وأولاد علي، الذي انتهى بجلاء أولاد علي إلى مصر، وإنهاء أي سيادة لهم في إقليم برقة.

وحبيب رجل قتل أبوه وأخوه غدرا، فتظاهر بعدم الاهتمام حتى انسل وقدم إلى سلطان طرابلس، واستعطفه بشعر عامي يقول فيه:

نا بوي يا بي محمود مقتول ظلم ما له جناية

مير وطن لكم محسود .. دلوه ناساً رعايا

فجرد معه السلطان محمود جيشا قوامه مقاتلون من “تاجوراء”  و”مصراتة” و”زليتن”، انضمت إليهم قبائل الحرابي عند وصولهم إلى برقة، وكان لهم النصر على قبائل أولاد علي وأجلوهم إلى مصر في القرن الثامن عشر ميلادي.

استقر “الجيش الغربي” في منطقة درنة، وأسس هنالك مدينة صارت بعد ذلك أحد معالم ليبيا في الثقافة والفن والتاريخ، والبسالة والنجدة.

صفقة القرن

أما الجزء الثاني من العنوان فهو مأخوذ من صفقة القرن التي ارتبطت بتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي. بعد أن دخل موشي ديان إلى القدس بعد النكبة في 1967م؛ قرر بشكل واضح أنهم لن يخرجوا منها، وعرضوا على جمال عبد الناصر عروضا لم يقبلها، أو لم تكن هناك أرضية لقبولها.

يقول الكاتب عمار فايد في مقاله “أسطورة صفقة” القرن “إن تعبير “صفقة القرن” صار هو الأداة التفسيرية لكل ما يجري في المنطقة”.

ودون الخوض في كثير من التفاصيل والفرضيات، بشأن الصفقة فملخصها هو إعطاء وطن بديل للفلسطينيين؛ إما بتوزيعهم بين مصر والأردن، أو باقتطاع أراضي مصرية لصالحهم، وضم جزء منهم إلى الأردن.

فقد نقل الصحفي الأمريكي مايكل وولف في كتابه “نار وغضب” عن كبير مستشاري ترمب السابق ستيف بانون قوله: “دعونا نعطي الضفة الغربية للأردن، وقطاع غزة لمصر، وندعهم يحلون المشاكل أو يغرقون في الوحل”.

كما تشير تسريبات أخرى إلى إعطاء جزء من سيناء للفلسطينيين، مقابل أراض من صحراء النقب تعطى لمصر. ما يهمنا هنا هو أن كل التسريبات التي رشحت عن الصفقة تشير إلى إعطاء جزء من الأرض المصرية للفلسطينيين، سواء عبر ضمهم إلى مصر، أو اقتطاع الأرض لهم من مصر. فمن أين ستحصل مصر على التعويض عن الأرض التي تخسرها؟ قد تكون صحراء النقب مقابل سيناء بدلا معقولا! لكن ماذا عن الثمن الاقتصادي؟ استدرْ قليلا وانظر إلى الغرب، إلى ليبيا، إلى برقة.

من المعلوم أن من ثوابت الاستراتيجية السياسية الدولية تجاه مصر؛ أن تبقى دائما دولة محتاجة، وبالتالي لن تمكن من النفط الليبي، ولكن تخفيف العبء عليها وارد من خلال تمرير ترحيل فلسطيني غزة إلى سيناء مقابل ترحيل أعداد أكبر من المصريين، من الأصول الليبية، إلى برقة. وحفتر هو الأداة لتمرير هذا الجزء من الصفقة.

الانقلاب مستمر

كانت التجرية الليبية تسير في مسارها الذي رسمه المجلس الوطني الانتقالي. تحررت البلاد من الطغيان وصدر الإعلان الدستوري، ووفى المجلس الانتقالي بوعوده. أجرى الانتخابات وسلم السلطة للمؤتمر الوطني.

وضعت العقبات أمام المؤتمر الوطني العام وهدد أعضاؤه بالقتل. خرج ضابط متقاعد اسمه خليفة بلقاسم حفتر، في فبراير 2014م، على قناة العربية وأعلن انقلابه. جمد الإعلان الدستوري وقال إن أعضاء المؤتمر الوطني العام أهداف مشروعة.

فشلت المحاولة الأولى، وسبقها بالطبع حراك لا للتمديد وانقلاب 7 يوليو المطموس. خرج حفتر من جديد بإعلانه عملية الكرامة وخرجت كتائب متحالفة معه في الغرب الليبي أعطت المؤتمر الوطني العام خمس ساعات لتسليم السلطة. أعلنت رئاسة الأركان عملية فجر ليبيا للتصدي لهذا الانقلاب ودخلت ليبيا في التيه.

تحول حفتر للشرق الليبي الذي وجد فيه حاضنة اجتماعية بعون من المخابرات المصرية، وقد رأت في حفتر رجلها لتحقيق طموحها في زرع حكم عميل لمصر.

لا بد أن نعي أن في برقة من يميل إلى مصر بحكم العلاقات التاريخية والجوار، حتى أن هناك من لاحظ أن عددا كبيرا من السياسيين في المنطقة الشرقية من أمهات مصرية، وهذا ليس عيباً في ذاته، إذا ظل في حدود العلاقة الاجتماعية، ولم يتطور إلى أن يصبح أداة تتعامل مع الخارج على حساب مصالح الوطن العليا.

نجح حفتر في التطهير العرقي في مدينة بنغازي، واستطاع السيطرة على أغلب مدن الشرق الليبي. واستطاعت الدعاية الإعلامية، والعمل الاستخباري المواكب لها أن يلصق بسكان برقة المنحدرين من المنطقة الغربية تهم “دعم الإرهاب”.

وها هي درنة في طريقها لنفس سيناريو بنغازي، وهذه المرة بمساعدة مصرية على الأرض وفرنسية من الجو، بالإضافة إلى الإمارات التي تستخدم هذه الحرب، على حساب دماء وأشلاء ومقدرات الشعب الليبي، كوسيلة لتدريب كوادرها وتجريب أسلحتها وحجز مقعد لها لمزيد من التحكم في المشهد الليبي.

مؤتمر الانقلاب

لم يكن مشروع حفتر وطنيا على الإطلاق؛ فقصته بعد الأسر معروفة ومعلومة، وعندما رجع إلى ليبيا سجل كتيبة باسم “الجيش الوطني الليبي” مثلها مثل كتيبة شهداء الزاوية وكتيبة 17 فبراير..إلخ. لكنه كان ذكيا في اختيار الاسم، والأرجح أنه تمت مساعدته في اختياره. أشكل على الناس هذا الاسم فاعتبروه هو القوات المسلحة الليبية، التي أعاد المجلس الانتقالي تسميتها بـ “الجيش الليبي”، مغالطة تاريخية وتزوير أغفل عنه الكثيرون.

قبل إعلان عملية الكرامة، عرض حفتر نفسه على الجزائر ومصر والإمارات والسعودية، رفضت الجزائر التدخل الأجنبي كعادتها، وقبلت مصر والإمارات والسعودية. قامت الإمارات بتقديم حفتر إلى فرنسا لدعمه، فقبلت فرنسا هذا الدور القذر من أجل تمكين مشروعها في ليبيا، على حساب مصالح إيطاليا، وبالذات مشروعها القديم في الجنوب الليبي الذي يعاني حالياً من التدخل اللعين من قبل الإمارات وفرنسا.

وربما تدخل السعودية، التي أصبحت ألعوبة في يد الإمارات، بشكل أكبر على الخط ولعلها تسضيف “طائفا ليبيا” من أجل إنتاج تسوية لصالح حفتر في نهاية المطاف. ولعل زيارة السراج للسعودية مؤخرا، هي تجهيز لمرحلة أخرى من مراحل الانقلاب.

من الواضح أن مشروع الحسم العسكري في ليبيا محكوم بالفشل، إلا إذا تم دعم حفتر بأسلحة نوعية، وإسناده على الأرض ومن الجو، كالذي حدث في بنغازي ويحدث الآن في درنة. ولكن هذه المغامرة في الغرب الليبي ستكون محفوفة بالمخاطر وستكون تكلفتها البشرية باهظة إن نجحت، ومع ذلك لن تستقر ليبيا.

جاء مؤتمر باريس ليصلي صلاة الجنازة على مشروع الدستور ويستبدله بـ”أساس دستوري”، وهو مصطلح فضفاض المقصود منه رسم خارطة جديدة تسمح عن طريق انتخابات مزورة، ستعمل مصر والإمارات والسعودية وفرنسا على تزويرها، لكي يتولى حفتر رئاسة البلاد ويقوم بتطبيق الجزئية الخاصة به في صفقة القرن.

التجريدة الجديدة وصفقة القرن

استعان خليفة بلقاسم حفتر بقبائل أولاد علي مقابل توطينهم في ليبيا. لكن صفقة القرن أضافت جزئية أخرى وهي تهجير الملايين من المصريين من أصول ليبية إلى برقة. ستساعد الدول الأربعة، مصر والإمارات والسعودية وفرنسا، حفتر للوصول إلى حكم ليبيا مقابل استيعابه لهذا العدد من مصر والذي قد يصل عبر سنين إلى 15 مليون نسمة.

وتكون مصر قد تخففت من جزء من سكانها، وكسبت مصدر دخل بسيطرتها على جزء من موارد ليبيا بشكل مباشر أو غير مباشر.

سيتم تطهير برقة ممن أصولهم من المنطقة الغربية ومن الجنوب وسيتم أيضاً تهجير قبائل الحرابي إلى الوسط والجنوب الليبي، وسيكون العبيدات الأكثر تضررا، وتصبح العواقير فئة مهمشة.

وبالتالي تكون صفقة القرن جاهزة بقبول السيسي تهجير فلسطيني غزة إلى سيناء وقبول ملك الأردن بتهجير كل الفلسطنين بمن فيهم فلسطيني الشتات إلى الأردن ويصبح الكيان الصهيوني دولة خالية من الفلسطينيين.

التصدي “لصفقة القرن الليبية”

يمكن بشيء من الجهد الوطني المركز التصدي بفعالية لصفقة القرن في جزئها الليبي، وذلك بالعمل على استراتيجية من ثلاثة محاول. الأول هو الإصرار على مشروع “الدستور أولا”، وعدم التنازل عنه لصالح عملية انتخابية مفصلة على مقاس شخص أو مجموعة أشخاص.

والثاني هو تحصين المنطقة الغربية والجنوب الليبي بالبناء على مشاريع المصالحة والتي من أهمها؛ المصالحة ما بين مصراتة وتاورغاء، وكذلك الميثاق الذي وقع ما بين الزنتان ومصراتة وترهونة، والعمل على انضمام باقي المدن لهذا الميثاق.

والثالث هو إنشاء جهاز عسكري وطني قوي، يستفيد من البنية التحتية العسكرية الموجودة في مدن الغرب الليبي، ووسطه وجنوبه، وأغلبها الآن في يد قوى عسكرية تؤمن بالدولة، وترغب في الانضواء تحت غطاء شرعية وطنية جامعة.

يؤمن الغرب بالداروينية السياسية، البقاء للأقوى، والغرب لديه مصالحه الخاصة والتي منها؛ ضمان أمن المتوسط، ومحاربة الإرهاب، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وهذه مسؤوليات لن تستطيع المليشيات القيام بها، وبالتالي لا بد من الخروج من مرحلة المليشيات إلى مرحلة المشروع العسكري ويجب أن تلتقط هذه المليشيات الفرصة، وتنضم قبل الفوات، إلى المشروع العسكري النظامي.

إن هناك قوى غربية وإقليمية ترفض صفقة القرن في شقها الليبي، ويمكن الاستفادة من موقفها، لصالح المشروع الوطني، لكن العمل الحقيقي يقع على عواتق الليبيين ويجب أن ينهضوا به حتى لا يفيقوا على حلم ليبيا وقد تبخر من بين أيديهم.

” فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد”

بقلم: وليد المنصوري

أُترك رد

كُتب بواسطة raed_admin

Exit mobile version