استهللت مقالي هذا الأسبوع بهذا العنوان لأشير إلى أن مشكلة السيولة وما تبعها من تداعيات إنما تمادت؛ لأن محافظ مصرف ليبيا المركزي يقارب حلها بطريقة يمكن وصفها بالتقليدية والجامدة.
من المهم القول: إن الصديق الكبير لم يكن هو سبب الأزمة المالية الراهنة، فأسبابها معلومة، ثم هناك أيضا تدخلات من جهات أخرى مثل مركزي البيضاء أو ديوان المحاسبة، بالقطع ساهمت في تطور الوضع المالي بشكل سلبي، لكني أعتقد أن الكبير أخفق في مجابهتها.
أحسب أن مقاربة محافظ المصرف المركزي تقوم على تحوط مبالغ فيه وحذر يقود إلى تأزيم مضاعف، ربما كان هذا الحذر مطلوبا في بداية الأزمة السياسية، وعند وقوع الانقسام السياسي، لكن الاستمرار فيه بلا شك يدفع الاقتصاد والمعاش باتجاه شرك خطير آثاره اليوم ظاهرة.
ابتداءً رفض الصديق الكبير عدة مقترحات تتعلق بتفعيل بعض الأدوات النقدية لمجابهة التردي في سعر صرف الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية، ومنها التعديل في سعر الصرف الدينار، أو التعامل مع الفجوة السعرية للدينار، والعملات الأجنبية بين المصرف المركزي والسوق الموازي من خلال طرح كميات من النقد الأجنبي بسعر بين السعرين قابل للتغيير حسب تراجع سعر العملات الصعبة في السوق السوداء.
تحفظ الكبير تأسس على صعوبة توفير كميات وفيرة من النقد الأجنبي بسبب القيود التي يفرضها المجتمع الدولي على تسييل الدولار واليورو، ووصولها إلى المصارف الليبية لأسباب أمنية، وهو عذر سقط بتبني سياسة توفير الدولار للمواطن (قرار الأربعمائة دولار للفرد)، والتي تحفظ عليها الكبير في البداية وقبل بها مضطرا، واعتقد أنها ساهمت بدرجة كبيرة في حفظ الدولار عند مستوى لا يتعدى العشرة دينارات، إذ كان من الممكن أن يتخطى سقف الـ (15) دينارا.
أعتقد أن الكبير وضع نفسه في شرنقة الأزمة السياسية، وبنى بها حول نفسه سورا عاليا، الأمر الذي قاد إلى حالة الجمود في مقاربة المصرف المركزي الليبي للأزمة المالية.
كل بيانات وتصريحات الكبير منذ اندلاع الأزمة المالية متمثلة في شح السيولة وارتفاع الأسعار…. إلخ، تعلل الأزمة بالانقسام وتوابعه وتقف عند ذلك، والكلام سليم ولا غبار عليه لشرح مسبباتها، لكنه قاصر إذا ما نظرنا إلى الطبيعة المعقدة للأزمة وإلى سبل الخروج منها.
فأن تتقوقع حول هذا السبب وتطالب “المعنيين” بمعالجة الانقسام بالاتفاق والتوافق حتى يمكن تصحيح الأوضاع الاقتصادية، فهذا عجز يسهم في استمرار التردي المالي.
الأوضاع الاستثنائية المعقدة تتطلب مقاربات استثنائية مبتكرة، خاصة إذا ما تبين أنها أوضاعا استثنائية تتجه إلى فرض معادلة استقرار مختلة، وهذا يتطلب التحرر جزئيا من المشاريع المتعارف عليها في ضبط مسار الاقتصاد وعودة الوضع المالي إلى طبيعته أو التخفيف من آثاره.
بإمكان الصديق الكبير أن يتحرر من القيود التي تكبله كرأسٍ للمؤسسة النقدية في البلاد، وأن يشرع هو نفسه في إيجاد حالة توافقية بين كافة المؤسسات السيادية في غرب البلاد وشرقها تتعلق بحزمة مجابهة الوضع المالي المتردي، والتمهيد لدرجة من الاستقرار والانتعاش الاقتصادي، دون حاجة للتوافق السياسي الشامل.
الصديق حظي بقبول أقطاب الأزمة السياسية في الغرب والشرق (برلمان، مجلس رئاسي، مجلس دولة)، وتحصل على دعم كافٍ من الأطراف الدولية، لكنه لم يفلح في استغلال وضعه هذا لتمرير سياسات تلجم تردي العملة المحلية، وتضبط انهيار أسعار السلع، وأصر على المقاربة الكلية لحل الأزمة والتي تتمثل في التوافق السياسي وبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصاحب.
الفوضى في البلاد وتضاد مصالح أقطاب الأزمة لابد وأن تفعل فعلها في الحد من أي مقاربة استثنائية للتخفيف من أثار الأزمة الاقتصادية والمالية، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وهو خير من ترك الحبل على الغارب، وانتظار حل الأزمة السياسية؛ ليتسنى احتواء الأزمة المالية.
أشدد على أنه لا غبار على أهمية الاتفاق السياسي والإصلاح الاقتصادي الشامل لاحتواء الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، لكن الخطأ في الجمود وانتظار تهيؤ الظروف والمناخ لهذين المشروعين، فيما أوضاع المواطنين المعيشية في القاع، وهو عامل تقويض للمشروعين إذا طال أمده، فالمواطن الذي طحنته الأزمة المالية من الممكن أن ينساق وراء مشاريع تصادم التوافق وتهدد وحدة البلاد في حال استمر الوضع على ما هو عليه أو ازداد ترديا.