على مدى خمس سنوات يمارس حفتر شتى أنواع الإذلال على سكان الجنوب، كما أمعن في خلق مشاكل بينهم، وتدخل في كل تفاصيل حياتهم اليومية، ناهيك عن ربط أية فضيلة أو نعمة به كمِنة منه عليهم، كما حرص دائما على أن يبقى كل الناس بحاحة ملحة لفضله.
فضل لم يتجاوز الشعارات الرنانة، ولم ير منه الناس سوى تجول تلك السيارات المكتوب عليها شعار الجيش المنقذ، وتحمل سلاحا قديم الصنع يمتطيه رجل مستفز الهيئة سيئ الخلق، تعلو وجهه تعابير الفظاظة، وبجانبه مجموعة من الغوغاء يتحدثون لغات غير معهودة، يتجولون بشكل مسرع في بعض الشوارع التي بها محطات وقود خاصة بهم، ولا توزع إلا عليهم أو بعض من تجار السوق السوداء.
إلى جانب مجموعة أخرى أكثر عددا من حيث العتاد والسيارات، تتقدمها بعض المصفحات الحديثة مكتوب على أسفل بابها “مستوردة لصالح مجموعة آل مبارك عجمان – الشارقة” يستقلها شخص متوتر الأعصاب لا يتورع عن استخدام كلمات نابية لا تقال لبني البشر، يضع على كتفه مرسوما يسمى اصطلاحا باللواء، يشهر في وجوه القوم صفة الحاكم العسكري للجنوب.
يبدأ سيادة اللواء دوام أحد أيام حكمه المطلق بالمرور على بعض المقار العسكرية، ويلتقي بها بمجموعة من أناس يحملون صفة شيوخ القبائل، كانوا ينتظرونه منذ أيام، يرحب بهم بطريقته الخاصة ثم يسكت قليلا ليسمع كلمات مدح لا متناه للقائد العام تشير إلى سداد رأيه وحكمة أفعاله وندرة أمثاله، وأنه صاحب الفضل وولي نعمهم، قبل أن يأتي دوره في الحديث ليؤكد على المؤامرة الكونية التي تحاك ضد الجيش والأمة جمعاء، وينهي حديثه المطول دون مضمون يذكر بضرورة التصدي للأيادي الخفية التي تحاول النيل من عزيمة الجيش الوطني، وينهر أحد الشيوخ الذي كان يسأل باستحياء أثناء كلمته المقتضبة عن سبب تأخر وصول شاحنات وقود كان قد قال لهم اللواء منذ فترة إنها في الطريق إليهم ضمن هدايا القائد لأهالي المنطقة، بالقول إن هذا الوقت ليس وقت الحديث عن الوقود في ظل انشغال الجيش بتطهير البلاد.
ينتهي الاجتماع الذي كان مصورا، ليذاع في المساء على قناة الجيش ضمن تقاريرها عن مناشط الجيش وبطولاته في استتباب الأمن، وإنقاذ أهلنا في الجنوب الحبيب من براثن الميليشيات والإرهاب، مع ضرورة ذكر تحسن الوضع وأن صاحبنا ناقش مع الأعيان آليات تنفيذ مشروع القيادة العامة وتوجيهات القائد العام الخاصة برفع المعاناة عن المواطنين.
أما سيادة اللواء فسيغادرالمقر بعد الاجتماع بشكل مهيب تتجلى فيه عظمة الجيش العربي الليبي، وفي الطريق يتوقف بشكل مفاجئ على بعض أسواق الخراف، وينزل سيادته بنفسه ليسلم على أصحاب “السعي” ويسأل عن سعر أحد الخراف السمان، منتظرا قول التاجر “أستغفر الله وكيف أطلب شيئا من حماة الوطن والعيون الساهرة على أمننا؟!” مع ضحكة صفراء من الطرفين تنتهي بأخذ الخروف والمغادر إلى رمال قريبة بضواحي المدينة .
وفي صباح اليوم التالي يتجه الرتل المهيب إلى أقصى قرية في المثلث الحدودي الفاصل بين الجزائر وليببا والنيحر، لكن قبل الوصول إلى القرية يأمر الجنرال بتقسيم الرتل إلى ثلاث مجموعات وفق خطة عسكرية نادرة؛ لمواجهة أي هجوم محتمل في تلك المنطقة، ويتوجه القائد العظيم مباشرة إلى مكان معلوم ليلتقي فيه بسيارة قال إنها لمخبر زرعه سيادته في المنطقة منذ مجيئه إليها، في خطة تكتيكية لا تخطر ببال أحد، وهذا المخبر متخف تحت اسم راعي إبل في الصحراء.
لكن صاحبنا الراعي في الحقيقة هو منسق خطوط المخدرات القادمة من المغرب في رحلة تنتهي بمصر ودبي، يتحدث معه اللواء لحظات ثم يغادر ويخبر باقي المجموعة بالعودة وأن “الأمور طيبة”.
هذا هو الوضع في الجنوب من خمس سنوات دون تضخيم، بل إن الحاكم العسكري في الجنوب يتحكم في كل شيء؛ يستولي على المزارع الحكومية التي يستخدم المواطنون بعضها من أجل تأمين أبسط مقومات الحياة الآدمية لأطفالهم، ويطردهم دون خجل وباسم هيئة الاستثمار العسكري، وهي هيئة تابعة لصدام حفتر استطاع أبطالها سرقة كافة آلات المشاريع الحكومية ليتم بيعها خارج البلاد.
أما الوقود فقد قام بزيادة سعره إلى خمسين درهما مع ضرورة شراء علبة زيت مع كل تعبئة وقود، فضلا عن أن بعض الوقود يذهب مباشرة إلى تجار البراميل في السوق السوداء، ويتعمدون بين الحين والآخر منع إيصال الوقود حتى يرتفع سعره في السوق السوداء.
أما السيولة فليست موجودة أصلا، ولدى صاحبنا رجال آخرون في الوكالات المصرفية مهمتهم بيع الصك بالدولار بنسبة 35% أي 700 دينار “كاش” مقابل ألف دينار صك تحويل.
يحدث هذا وسط سلبية لا مثيل لها من قبل سكان الجنوب.. سلبية لا ترى أي ضرورة لرفض إغلاق كافة مطارات الجنوب لسنوات طويلة رغم خطورة الطرقات البرية وتهالكها وبعد المسافات وانعدام الوقود.
سلبية ترى أن للجيش حقا في تفتيش غرفة النوم لأي كان بمجرد أن يكون قريب أحد المتهمين بمعارضة الجيش، ولديه الحق كذلك في إخفاء من يريد واعتقاله متى شاء وكيفما شاء دون إبداء أية أسباب.
لم يقدم عون الفرجاني على إغلاق مطارات الجنوب ومنع هبوط الطائرة في مطار سبها، إلا لأنه يعرف أن الناس هناك لن تكون لديهم أي ردة فعل يمكن أن تشكل على ميليشياته تهديدا وجوديا أو حتى مجرد رفض عام.. وهذا النوع من المجتمع هو الذي يفضله المستبد، نعم يريد حفتر مجتمعا منبطحا فاقدا للضمير، ومواطنين كالخراف، يرضون بأي نوع من الذل يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغتصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه على حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته.