يكاد ينقضي عامٌ على بداية عدوان حفتر ومليشياته على العاصمة طرابلس، هذا العدوان الذي أدخلَ ليبيا في حلقة مفرغةٍ لا تتكرّر فيها إلا مشاهد القتل والقصف والأشلاء والدماء، وجعل كل الفُرَص لتجاوز الصراع والخروج من الأزمة بعيدة، ودونها مفاوِزُ وصياصيُّ من الإشكالات والتعقيدات المتراكمة والمتشابكة.
الوقوف على عتبة العام الأول من العدوان والالتفات إلى ركام الأسى والدمار الذي خلّفه، والشروخ والأخاديد التي اجترحها في جسد الوطن، يُنبِؤُك عن قُبحِ الاستبداد، ويكشف لك عن مستقبلٍ قاتمٍ -إذا ما تمكنّ حفتر- ينتظِرُ وطناً وشعباً ما كاد يخرج من عباءة القذافي النتنة، حتى تلقّفه هذا المجرم ببزة العسكر وحذائه يدوسُه ويركلُه، ليقتادَه كالقطيعِ -وما هو ببالغٍ ذلك بنصر الله-.
الحديث عن فظائع حفتر وجرائمه يُغني عنه ما يعيشه الناس من معاناة، وما تنقله الصورة الحية من مآسٍ، فقد طال بمشروع استبدادِه المدمّر كل شيءٍ، وأتى بحربه وفسادِه على كلّ جانب، فعدوانُه لم يقتصر على قصف المدنيين الآمنين في بيوتهم وتدمير ممتلكاتهم، بل طال البنية التحتية الهشّة، وسبّب أزمة نزوح مؤلِمة، وجعل من شباب الوطن وقوداً لحربه المسعورة، واستعان بمرتزقة العالم من قتلة ومجرمين، وأغلق موانئ النفط ومنشآته ليبتزّ الليبيين بقوتهم ويساومهم عليه ليحكمهم، وأعلى من شأن السفهاء والغوغاء وجعلهم أعياناً وعُمداً يأجّجون خطاب الكراهية ويُعمِلون مشارط البغضاء والحقد في أواصر الوطن ووشائجه، ناهيك عن نهب وسرقة أبنائه وحاشيته واستطالتهم على الناس قهراً وسجناً وقتلاً، ليواجه الليبيون بعد هذا كله جائحة كورونا في أسوأ ظروفهم وأصعب حالاتهم.
هذا العدوان بفظاعته وشناعته صدّته رجالٌ آمنوا بوطنهم وخالط إكسير الحريّة دمهم فرأوا حرّيتَهم حياتَهم، فما كان لهم أن يعطوا الدنية ويرضوا بأن يحكمهم هذا المجرم استبداداً، فسطّروا الملاحم وثبتوا وصبروا، وأظهروا من الحكمة والحصافة ما تساموا به عن خلافاتهم والتفّوا حول المجلس الرئاسيّ ليقود معركة صدّ العدوان والدفاع عن مدنية الدولة، فهل كان المجلس الرئاسيّ في مستوى المسؤولية التي حُمّلها، والأمانة التي احتملها؟
المجلس الرئاسي طيلة عامه ظلّ راكناً إلى شرعيته بعيداً عن قواتِه التي حمتْها، يتخبّط ارتباكاً ويتحرّكُ ارتعاشاً وينفعل للفعل ولا يفعل ابتداءً، وكأنّه يتعمد إهدار هذه اللحظة الوطنية الفارقة التي نال فيها التأييد والدعم، وإن كان المجلس الرئاسي قد تشكّل في ظرفٍ صعب وبوفاقٍ منقوص أُنجَز تحت الضغط، فإن العدوان على طرابلس أتاح له من التوافق عليه ما لو صادف همةً وطنية صادقة لحسمت المعركةَ وجعلت المعتدي ينقلبُ خاسراً.
قد يرى بعضهم أن حجم المؤامرة على الوطن أكبر من أن يجابهها المجلسُ الرئاسي، وهذا غير صحيح، فإن للمجلس الرئاسي من عوامل القوة وأسباب الغلَبة ما يجعله قادراً على تغيير المواقف وعقد الشراكات والتحالفات مع المعنيين بالقضية الليبية، ولكنّ حسابات المصالح الضيقة، والحرص على استدامة الأزمة للبقاء في السلطة أطولَ وقتٍ ممكنٍ هو ما يجعل المجلس الرئاسي متمسكاً بهذا الأداء الهزيل والحراكِ الضعيف.
عامٌ من الحرب سينقضي والرئاسي يرفض تكليف وزير للدفاع يحمل عبء المؤسسة العسكرية التي يخوض رجالها حرباً ضروساً ضدّ جيش من المرتزقة والمجرمين، ولا يريد الالتفات لرئاسة الأركان ليضع على رأسها من يمثل هيبتها وقوّتها، عام سينقضي والرئاسي يتجاهلُ كل الدعوات لإصلاح حكوميٍّ واسعٍ يحارب الفساد الذي أزكم الأنوف واستشرى بلاؤه واستطار فصارت الأزمات فرصةً لكل فاسدٍ ليصنع ثروته أو يُنمّيها، بل إن الرئاسي يصرّ على استبقاء كل فاسدٍ مشبوهٍ وتقريبه وتمكينِه، عامٌ سينقضي والرئاسي أطلق مبادرته السياسية وفتح معها حواراً مجتمعياً تجاهلَه وتناساه، ليؤكّد أنه عاجزٌ عن أن يبادر، وإن بادر فهو عاجزٌ عن أن ينجِز.
إن ما ينبغي أن يعيَهُ المجلسُ الرئاسيّ -إن كان مؤمناً بمدنية الدولة حقّاً- أنّ رحيله وانتهاء سلطته هي نهاية هذه المعركة التي سننتصر فيها بإذن الله تعالى، فعليه أن يقودَها بشرفٍ وإخلاص ويترفّع فيها رئيسه وأعضاؤه عن مصالحهم الضيقة ومكاسبهم العاجلة، وإن أراد أحدهم أن يستكمل مسيرته السياسية، فعليه أن ينجزَ فيما وُكِل إليه من مسؤولية وأمانة اليوم، وإلا فإنه سينتهي بانتهاء هذه المرحلة طالت أم قصُرت.
ولعلّ من أهم أسباب تصحيح مسار المجلس الرئاسي والأخذ بيدِه، أن تكون هناك جهود صادقة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وتنسيق فيما بينهما لدعمه والضغط عليه، وأن تستقرّ في الذهنية السياسية لدى الجميع ضرورة إنهاء هذه المرحلة بإنهاء أجسامها السياسية الهشّة، ولا شكّ أن هذا من شأنه أن يكونَ محفّزاً لحسم المعركة ودحر العدوان.