in

لأن المقاطعة ليست تريند!

إن الحقيقة الكامنة داخل النفوس التي لا تتغير هي أن النفوس غير ثابتة، يستحوذ الشر عليها برهة من الوقت، والخير لبرهة أخرى، لكن المعادلة التي تقاس بتلك الطريقة ليست سهلة، بل هي أعقد من ذلك بكثير، فالإنسان الذي يضع نفسه موضع الضعف أو موضع القوة، إما يهوي بنفسه إلى ينابيع الضلال، ويرضى بذلك الهوان، أو يستيقظ عندما يرى النور، ويمسك به ولا يفلته، فبعض الفرص تأتي مرة واحدة، إما أن تهملها فتختفي، أو تتمسك بها فتنمو معها وتنضج.

لكن الحقيقة الكامنة المرئية التي نراها الآن بعد مرور تقريباً ثلاثة أشهر على أحداث غزة الأخيرة، أن هناك نفوساً تلوثت ولا أمل فيها في وطننا العربي ولا أمل أن تُنقى، فعلى الرغم من أن عدد القتلى والجرحى يزداد يوماً بعد يوم، إلا أن هناك قلوباً عربية تزداد موتاً، بل أصبحت أيضاً عقولها كالحيوانات أو أضل سبيلاً.

هناك ظاهرة غريبة خلال الأيام الأخيرة بدأ يلاحظها الكثيرون، وهي أنه عندما تمت مقاطعة مطاعم أو منتجات تدعم الاحتلال الإسرائيلي لمدة طويلة بعد الأحداث ووصلت الأمور إلى ذروتها، وتفاعل الناس ذوو القلوب الرحيمة، التي تحمل نوعاً من الشرف الأخلاقي والديني، فنرى الآن أن هناك أعداداً أخرى بدأت بالتوافد على تلك المطاعم مرة أخرى، ونسوا أن الإسرائيليين ما زالوا يقتلون إخوانهم بدم بارد بلا توقف، وفضل أولئك الناس شهواتهم وحبهم للطعام والشراب على أرواح أهل فلسطين، أليس ذلك نوعاً خاصاً من القذارة لم نرها من قبل؟!

هناك جانبان لتلك الظاهرة، هو أنه يوجد احتمال أن أولئك الناس مأجورون من خلال الشركات التي تنتج منتجات المقاطعة، لكي يثبطوا الآخرين، ويقولون لهم: “إنك إذا لم تكن معنا فإنك غريب، فكل واشرب مثلنا تلك الأطعمة اللذيذة، ولا تحرم نفسك من شيء، فقد فعلت ما في وسعك”، فيشعر الإنسان حينها بأنه وحيد، وأنه هو المقاطع الأوحد، وسط زحام الآخرين الذين يذهبون ويدفعون أموالهم بلا تفكير مساهمة في قتل إخوانهم، فإن كان هذا الإنسان الذي يشعر بالوحدة ضعيف النفس بلا قضية حقيقية جزرية، سيشعر بالهوان وينسى الدماء التي أريقت.

أما الجانب الثاني لتلك الظاهرة فإن بعض الناس لا تنبع آراؤهم من داخلهم، بل يحركهم ما يُسمّى”التريند”، فما يحركهم ويقويهم في البداية الإعلام بجميع أنواعه والأخص المشاهير الذين يتابعونهم، وما يضعفهم نفس السبب أيضاً، فيكونون كالورقة التي تحملها الرياح معها إلى أي مكان دون مقاومة، فيوم مع هذا ويوم مع ذاك.

أعرف أن الكلام بات مكرراً، لكن النفوس تحتاج إلى تذكرة، فالوجبة أو المشروب الذي تعتقد أنك تشتريه بثمن بخس، ولا يؤثر على شيء، فذلك ليس صحيحاً، بل هو يسهم في شراء صواريخ تسقط على رؤوس الأطفال والنساء، وتهدم البيوت، وتنتشر الأشلاء في الشوارع، كل هذا لأنك أحببت أن تغذي شهواتك فقط، وظننت أنك أذكى من غيرك في فهمك للأمور، لكني مع غالب الأسف أود أن أقول لك إنك مفعم بالغباء والقذارة التي تحتاج أن تفكر في تنظيفها، ولكن التنظيف والاغتسال منها سيأخذ وقتاً طويلاً!

في آخر كلامي أريد أن أقول إن الإنسان يجب أن يقرأ عن قضايا أمته ويتابعها، ولا ييأس من ذلك؛ لأنه بعد أن يتمعن في هذا سيرتبط بقضاياه أكثر، وسيكون أكثر ثباتاً، ولن يستطيع أحد أن يُحيده عن الطريق الصحيح، والإنسان إذا كان وحيداً في الطريق المستقيم، فذلك ليس حجة أن يخرج منه، فقد قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: “الجماعة ما وافق الحق وَلَوْ كنتَ وَحدَكَ”، صححه الْألبانِيُّ.

وإن المقاطعة ليست فائدتها لأهل فلسطين؛ لأن الله معهم إن نصرتهم أو لم تنصرهم، بل المقاطعة لك أنت، بل هي دليل أنك ما زلت على خلق وشرف، وإنه فعل تقول لله من خلاله عندما تلقاه أنك فعلت شيئاً لإخوانك حتى ولو بسيطاً، فالمقاطعة تزيدك شرفاً ومكانة أمام نفسك، فالمقاطعة قاطعة لكل فاسد وظالم، وعلواً لكل صاحب حق واعٍ.

المصدر: عربي بوست

كُتب بواسطة ليلى أحمد

مصلحة الضرائب تحقق أعلى نسبة إيرادات منذ تأسيسها

غزوُ التفاهة