يَحُلُّ شهر الله المُحرَّم، فيتذكَّر المسلمون ذلك الحدث العظيم، الذي قلَب موازين التاريخ، وغيَّر وجه البشريَّة، إنَّه حادث الهجرة النبوية المباركة، من مكَّة المشرَّفة إلى المدينة النبويَّة، التي كانت سبيلاً إلى إنشاء الدولة الإسلامية؛ حيث شعَّ نور الإسلام في الأصقاع، ودخل النَّاسُ في الدين أفواجًا.
إنَّ أحداث الْهِجرة النبويَّة تضمَّنَت العديد من الدُّروس والعِبَر، نقتصر منها على سبعة:
1- التضحية:
• فهذا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلَّم – يضطرُّ إلى مغادرة بلده الذي وُلِد فيه وترعرع، وترك أقرباءه وعشيرته، فقال وهو يغادرها بِنَبْرة من الحزنِ: ((واللهِ إنَّك لَخيْر أرْض الله، وأحبُّ أرْض الله إلى الله، ولوْلا أنِّي أُخْرِجْت منْك ما خرجْتُ))؛ “ص. الترمذي”.
• وهذه أمُّ سلمة – وهي أوَّل امرأة مهاجِرة في الإسلام – تقول: “لَمَّا أجْمَع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رَحَّل بعيرًا له، وحَملَنِي وحَمل معي ابنَه سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلمَّا رآه رجالُ بني المغيرة بن مَخْزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفْسُك غلبْتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه، علامَ نترُكك تسير بها في البلاد؟ فأَخذوني، وغَضِبَتْ عند ذلك بنو عبدالأسد، وأهوَوْا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها؛ إذْ نزعتُموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابنِي سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسَنِي بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتَّى لحق بالمدينة، ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني”، فمكثَتْ سنة كاملة تبكي، حتَّى أشفقوا من حالِها، فخلَّوْا سبيلها، ورَدُّوا عليها ابنها، فجمع الله شَمْلَها بزوجها في المدينة.
• وهذا صُهَيب الرُّومي، لَمَّا أراد الهجرة، قال له كُفَّار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالُك عندنا، وبلَغْتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تَخْرج بِمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: “أرأيتم إنْ جعلْتُ لكم مالي، أتخلُّون سبيلي؟” قالوا: نعم، قال: “فإنِّي قد جعلتُ لكم مالي”، فبلغ ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلَّم – فقال: ((رَبِح صهيب))، والقصة في “صحيح السِّيرة النبوية”.
2- لا لليأس:
لقد مكثَ النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – في مكة مدَّةً من الزَّمن، يدعو قومه إلى الهدى، فما آمن له إلاَّ قليل، بل عاش الاضطهاد والنَّكال، وعُذِّب هو وأصحابُه، فلم يكن لِيَثنِيَه كلُّ ذلك عن دعوته، بل زاده إصرارًا وثَباتًا، ومضى يبحث عن حلول بديلة، فكان أنْ خرَجَ إلى الطائف، باحثًا عن أرض صالحة للدَّعوة، لكنْ وُوجِهَ هناك بأقسى مِمَّا توقَّع، فأُوذي وأُهين، وقُذِف بالحجارة، وخرج من الطَّائف مطرودًا مُهانًا وقد تَجاوز الخمسين، ولكن أشد ما يكون عزيمة على مُواصلة رسالته، فأخذ يَعْرض نفسه بإصرار على القبائل في موسم الحجِّ، ويقول: ((ألاَ رجل يَحْملني إلى قومه، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربِّي))؛ “ص. ابن ماجه”.
فرفضَتْ خَمْسَ عشرةَ قبيلةً دعوتَه، حتى فتح الله له صدور الأنصار، فكانت بيعة العقبة الأولى والثَّانية، وكانت سفارة مصعب بن عمير إلى المدينة، الذي هيَّأ التُّربة الصالحة لاستمرار الدَّعوة، وتكوين الدَّولة في المدينة النبويَّة، فكانت الهجرة تتويجًا لِعَمَل دؤوب، وصَبْر شديد، وحركة لا تعرف الكلل أو الملل.
3- حسن الصحبة:
وتجلَّت في أبْهَى صُوَرِها مع أبي بكر الصدِّيق، الذي ذهب كثيرٌ من المفسِّرين إلى أنَّه هو المقصود بالْمُصدِّق في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ [الزمر: 33]، لَمَّا قال النبي – صلى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي أُريتُ دار هجرتكم ذات نَخْلٍ بين لابتين)) وهُما الحرتان؛ “البخاري”، تَجهَّز أبو بكر، فقال له النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم -: ((على رِسْلِك؛ فإنِّي أرجو أن يُؤْذَن لي))، فقال أبو بكر: “وهل ترجو ذلك بأبِي أنت؟” قال: ((نعم))، فحَبَسَ أبو بكر نفْسَه على رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – لِيَصحبه، فانتظر أربعة أشهر يعلف راحلتَيْن كانتا عنده، حتَّى أذن الله بالهجرة، فلما أخبَره النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – لَم يُصدِّق أنْ يكون صاحِبَ رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – حتَّى قال: “الصحبةَ بأبي أنت يا رسول الله؟” قال رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم -: ((نعم))، قالت عائشة – رضي الله عنها -: “فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم أنَّ أحدًا يبكي من الفرح، حتَّى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذٍ”؛ البخاري.
وعندما خرجا معًا، كان أبو بكر يتقدَّم النبِيَّ – صلى الله عليه وسلَّم – في ترَصُّد الأمكنة؛ حتَّى لا يصيبه أذًى، فسأله النبي – صلى الله عليه وسلَّم – قائلاً: ((يا أبا بكر، لو كان شيء، أحببتَ أن يكون بك دوني؟))، فقال أبو بكر: “والذي بعثك بالحقِّ، ما كانَتْ لتكون من مُلِمَّة إلاَّ أن تكون بي دونَك”، فلما انتهَيا إلى الغار، قال أبو بكر: “مكانك يا رسول الله، حتَّى أستَبْرِئ لك الغار”؛ رواه الحاكم في “المستدرك”، وقال الذَّهبي: صحيح مُرسل.
4- إتقان التخطيط وحسن توظيف الطاقات:
إن الهجرة تعلِّمنا كيف يؤدِّي التخطيطُ الجيِّد دَوْرَه في تحقيق النَّجاح، ومن أعظم أسُسِ التَّخطيط حُسْنُ توظيف الطاقات، وسلامة استغلال القدرات المتاحة، فالصَّدِيق قبل الطريق، والراحلة تُعْلَف وتُجهَّز قبل أربعة أشهر وبِسرِّية تامَّة، وعليُّ بن أبي طالب يُكَلَّف بالنوم في فراش النبِيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – تَمويهًا على المشركين وتخذيلاً لَهم، وهو دور الفتيان الأقوياء.
وأمَّا دور النِّساء، فيمثِّله قولُ عائشة – رضي الله عنها – متحدِّثة عن نفسها وأختها أسماء: “فجهَّزْناهما أَحَثَّ الجَهازِ” أسرعه، والجَهاز: ما يُحتاج إليه في السَّفر، “وصنَعْنا لهما سُفْرة” الزَّاد الذي يُصْنع للمسافر “في جِراب” وعاء يُحْفَظ فيه الزاد ونَحْوه، “فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فربطَتْ به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيَت ذات النطاقين”؛ البخاري.
وأمَّا دور الأطفال، فيمثِّله عبدالله بن أبي بكر، قالت عائشة – رضي الله عنها -: “ثُم لَحِقَ رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – وأبو بكر في غارٍ في جبل ثَوْر، فكَمُنَا” اختفَيا “فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر، وهو غلامٌ، شابٌّ، ثقفٌ” حاذق فطن، “لَقِنٌ” سريع الفهم، “فيدلج من عندهما بِسَحَر” قُبَيل الفجر، “فيصبح مع قريش بِمكَّة كبائتٍ، فلا يَسْمع أمرًا يُكتادان به إلاَّ وعاه، حتَّى يأتيَهما بِخَبَرِ ذلك حين يختلط الظَّلام” تشتد ظلمة الليل؛ البخاري.
ومِن كمال التخطيط، كان الراعي عامِرُ بن فهيرة يسلك بقطيعه طريق الغار؛ لِيُزيل آثار الأقدام المؤدِّية إليه، ثم يسقي النبِيَّ – صلى الله عليه وسلَّم – وصاحبَه مِن لبن غنَمِه.
ومن كمال التخطيط أنِ اتَّخَذ النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم – عبدالله بن أريقط دليلاً عارفًا بالطريق برغم كونِه مشركًا، ما دام مؤتَمنًا، متقِنًا لعمله؛ ولذلك أرشدَهم – بِمهارته – إلى اتِّخاذ طريق غير الطريق المعهودة.
الخطبة الثانية
5- الثبات على الموقف، والبحث عن الحلِّ الشامل،
وليس الاقتصار على مفاوضات البدائل التَّرقيعيَّة، ومناقشات الحلول التخديريَّة الآنية، لقد بدأ الحلُّ الشامل منذ أن عُرض على النبيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – أن يَعْبد إله المشركين عامًا، ويعبدوا إلَهَه عامًا، فأبَى ذلك، ثم تطوَّرَت العروض والمغريات حتَّى وصلَتْ إلى ذروتها مع عتبة بن ربيعة حين قال للنبِيِّ – صلى الله عليه وسلَّم -: “يا ابن أخي، إن كنْتَ إنَّما تريد بِما جئتَ به من هذا الأمر مالاً، جَمَعْنا لك من أموالنا حتَّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا، سوَّدْناك علينا حتَّى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد مُلكًا، ملَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه” مَسًّا من الجن “لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلَبْنا لك الطِّبَّ، وبذَلْنا فيه أموالنا حتَّى نبرئك منه”؛ حسَّنَه في “ص. السيرة النبوية”.
إن الحلَّ الشامل لبلاد المسلمين يَكْمُن في استقلالهم الكامل بذاتِهم، والعمل على التخلُّص من التبعيَّة الفكريَّة والاجتماعية، والاقتصادية والسياسيَّة للشَّرق أو للغرب، وليس عَبثًا أن يَختار عمرُ بن الخطاب – رضي الله عنه – التَّأريخَ للمسلمين بالْهجرة، ويقول: “الهجرة فرَّقَت بين الحقِّ والباطل”، فحَلُّ الأزمات بِيَدِ الله لا بيد غيره، إنْ نَحْن عقَدْنا العزم على التمكين لدينه، ونَشْر سُنَّة نبيِّه، وهنا يطالعنا الدرس السادس.
6- شدة التوكل على الله:
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]، قال ابن عباس: “لَرادُّك إلى مكَّة كما أخرجَك منها”.
مَنِ الذي منع المشركين من أن يَعْثروا على النبِيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – وصاحبه، وقد وقَفوا على شفير الغار، حتَّى قال أبو بكر: “لو أنَّ أحدهم نظر تَحْت قدمَيْه لأبصرنا”؟ إنه الله؛ ولذلك كان جواب الرسول – صلى الله عليه وسلَّم -: ((ما ظَنُّك يا أبا بكر باثْنَيْن اللهُ ثالثُهما؟))؛ البخاري.
إن التوكُّل سبيل النَّصر، فكلما احلولكَتِ الظُّلمات، جاء الصُّبح أكثر انبلاجًا، ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [يوسف: 110]، إنَّها جنودُ الله التي تصحب المتوكِّلين عليه، هذا سُراقة بن مالك يُبْصِر مكان المختبِئَيْن، ويَحْزن أبو بكر ويقول: “أُتينا يا رسول الله”، فيقول له النبِيُّ – صلى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَحزنْ؛ إِنَّ الله مَعَنا))، فإذا بالعدوِّ ينقلب صديقًا، يعرض عليهما الزادَ والمتاع، ويَذْهب بوصيَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم -: ((أَخْفِ عنَّا))؛ البخاري.
7- من معاني الهجرة:
• هجرة المعاصي وما يُعْبَد من دون الله، قال تعالى: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، وقال – صلى الله عليه وسلَّم -: ((الْمُسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجر ما نَهى الله عنه))؛ متَّفَق عليه.
• هِجْرة العصاة، ومُجانبة مُخالطتهم، قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، وهو الذي لا عتاب فيه.
• هجرة القلوب إلى الله تعالى، والإخلاص في التوجُّه إليه في السرِّ والعلانية، قال النبي – صلى الله عليه وسلَّم -: ((فمَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لِدُنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ متفق عليه.
• أيُّها الناس، إنْ كان الصيام في شهرِ مُحرَّم مستحبًّا؛ لقوله – صلى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان، شهر الله الذي تدْعونه المُحرَّم))، فإنَّ صوم اليوم العاشر منه المعروف بعاشوراء آكَد، نصومه شكرًا لله؛ لأنَّه أَنْجى فيه موسى – عليه السَّلام – وأغرق فيه فرعون، فكان صيامُه كما قال النبي – صلى الله عليه وسلَّم -: ((يكفِّرُ السَّنَةَ الماضِية))؛ مسلم، ومن استطاع أن يصوم يومًا قبله فهو أفضل.