سؤالٌ تقني في ظاهره، سيادي في عمقه، واستخباراتي في جوهره. في العرف الدولي، الصندوق الأسود ليس قطعةمعدنية، بل حاوية سيادة؛ من يفتحه لا يقرأ حادثًا، بل يسمع ما لا يُقال، ويرى ما حاولت السياسة إخفاءه.
ألمانيا، التي تجمعها بتركيا علاقة ثقة اقتصادية وأدبية عميقة، والتي ترتبط معها بسلاسل إنتاج وصناعة وأمن طاقة،اختارت هذه المرة الانسحاب الهادئ من مسرح التحقيق.
الجهة المعنية نظريًا ليست وزارة تقنية، بل الادعاء العام الاتحادي الألماني، الذي لا يتحرك إلا عندما تتقاطع الوقائعالفنية مع مخاطر سيادية أو تبعات دولية، وبجواره لا أمامه تقف تقديرات جهاز الاستخبارات الخارجية الألمانية(BND)، لا لتُصدر حكمًا، بل لتُقدّر الكلفة.
في مدارس الأمن القومي، هناك ما يُسمّى منطقة الإحراج الصامت: حين تكون الحقيقة صحيحة… لكن إعلانهامكلف.
الاعتذار الألماني لا يُقرأ كضعف، بل كقرار تحييد ذاتي عن ملف بدأت تتسلل إليه فرضية الطرف الثالث.
طرفٌ لا يريد إسقاط طائرة بقدر ما يريد إسقاط سردية، ولا يستهدف فردًا بقدر ما يسعى إلى إعادة تموضع تركيا خارجالملف الليبي.
في هذا السياق، يصبح الصندوق الأسود وثيقة صدام محتمل: – إن كشف خللًا تقنيًا صِرفًا، انتهى الجدل.
وإن أشار إلى تلاعب، أو ثغرة أمنية، أو تسلسل إجرائي غير بريء، فإن السؤال سينتقل فورًا من كيف سقطت الطائرة؟إلى من سمح للسماء أن تُخترق؟ وهنا بالضبط تتراجع الدول الحذرة خطوة. ليس خوفًا من الحقيقة، بل خشيةً منتدويرها سياسيًا.
الحديث عن دفع ثمنٍ بشري مهما كانت مكانته لا يُقال في غرف التحقيق، بل يُهمس في غرف التقدير. وفي الأدبياتالأمنية، يُسمّى ذلك: تسعير النفوذ بالوقائع.
أما الربط بين طرابلس، ومسارات الإقلاع، وسلاسل الحماية، فلا يُكتب بالحبر، بل يُقرأ بين السطور، حيث لا اتهام بلادليل، ولا براءة بلا مراجعة شاملة.
ألمانيا فهمت أن دخول هذا الملف يعني الانتقال من دور الوسيط الاقتصادي إلى موقع الشاهد السياسي، وهذا آخرما تريده دولة بوزنها في لحظة اختلال دولي.
ألمانيا لم تقل “لا” للتحقيق، بل قالت ليس الآن وليس هنا. لأن بعض الصناديق، حين تُفتح، لا تُغلق بسهولة.

