بعد أربعة أشهر من كشف البعثة الأممية عن تفاصيل خارطة طريقها للحل السياسي، عادت المبعوثة هانا تيتيه لتلوّح مجدداً بإمكانية تجاوز مجلسي النواب والدولة، والسير نحو مسار بديل، في ظل استمرار حالة الانسداد السياسي.
وخلال إحاطتها الأخيرة أمام مجلس الأمن، حذّرت تيتيه من أن تتحول العملية السياسية إلى رهينة لتقاعس الأطراف السياسية الفاعلة، التي تُبقي على الوضع الراهن، سواء بقصد أو دون قصد، مؤكدة عزمها عرض آلية بديلة للحل في إحاطتها المقبلة المقررة في فبراير القادم، على أن يتم اعتمادها من مجلس الأمن الدولي.
ويرى مراقبون أن تجاوز دور مجلسي النواب والدولة بات ملحّاً أكثر من أي وقت مضى لكسر الجمود السياسي، فيما يعتبر آخرون أن البعثة الأممية تجاهلت توافقات سابقة توصّل إليها المجلسان، ولم تعمل على تطويرها أو البناء عليها، ما أسهم في تعميق الأزمة بدل حلّها.
“منطقي.. لكن”
من جانبه، قال عضو المجلس الأعلى للدولة منصور الحصادي إن تهديد البعثة بتجاوز المجلسين يحمل قدراً من المنطق، باعتباره محاولة للدفع بالمسار السياسي إلى الأمام وكسر حالة الجمود، لكنه شدد على أن هذا التوجه “غير كافٍ”.
وأوضح الحصادي، في تصريح للرائد، أن الضغط يجب أن يطال أيضاً الأطراف الأخرى المعرقلة للحل السياسي، والمستفيدة من استمرار الانقسام والفساد، والتي تمارس ضغوطاً مباشرة أو غير مباشرة على المجلسين.
الدعوة إلى وقف التدخل الخارجي
وطالب الحصادي البعثة الأممية بضمان إيقاف التدخل الخارجي السلبي، الذي يسهم في إفشال أي حل وطني توافقي، مؤكداً أنه كان شاهداً على محاولات عرقلة محلية ودولية في أكثر من محطة سياسية. كما انتقد ما وصفه بتجاهل البعثة المتكرر للتقارب الحاصل بين مجلسي النواب والدولة، وعدم اضطلاعها بدور جاد وفاعل في التقريب بينهما.
ضغط أم خطوة؟
بدوره، رأى الكاتب الصحفي موسى تيهوساي أن التوافق الكامل بين مجلسي النواب والدولة حول القوانين الانتخابية، ولا سيما شروط الترشح والانتخابات المتزامنة، يبدو أمراً بالغ الصعوبة.
وأضاف تيهوساي، في تصريح للرائد، أن تلويح البعثة بتجاوز المجلسين يمثل أداة ضغط سياسية، لكنها قد تلجأ فعلياً إلى هذا الخيار إذا ضمنت دعم أطراف نافذة في الشرق والغرب، لا سيما العسكرية منها. واعتبر أن فشل البعثة في تجاوز المجلسين سيمنحهما فرصة جديدة لاحتكار الحلول السياسية في البلاد.
إفشال التوافق
من جهته، اعتبر المحلل السياسي السنوسي إسماعيل أن المبعوثة الأممية قدّمت “جزءاً من الحقيقة وأغفلت الباقي”، واصفاً ذلك بأنه تجاوز لوقائع ثابتة تدحض ما طرحته.
وأوضح إسماعيل، في تصريح لـالرائد، أن تيتيه حاولت إظهار أن البعثة أدّت كل ما كُلّفت به من قبل مجلس الأمن، وألقت بالمسؤولية كاملة على عاتق الأطراف الليبية.
وأشار إلى أن مجلسي النواب والدولة توصلا إلى توافقات صعبة، استهلكت وقتاً وجهداً كبيرين من تيار التوافق الوطني، لكن البعثة تجاهلت العديد من هذه التسويات الواقعية القابلة للتطبيق، والتي أُجهضت لاحقاً بتدخلات دولية.
وحمل إسماعيل البعثة مسؤولية عدم كشف هذه الحقائق بوضوح أمام مجلس الأمن، وتبيين كيف أُفشلت التوافقات الليبية محلياً ودولياً.
تحييد
في المقابل، رأى المحلل السياسي إلياس الباروني أن التلميح بإمكانية تجاوز مجلسي النواب والدولة لا يمكن اعتباره مجرد خطاب إنشائي، بل هو رسالة محسوبة تعكس عمق الانسداد في المسار الدستوري والمؤسسي الليبي.
وقال الباروني، في تصريح لـالرائد، إن البعثة سبق أن اعتمدت مسارات موازية عندما تحولت المؤسسات القائمة إلى عائق بنيوي أمام الحل، كما حدث خلال ملتقى الحوار السياسي الليبي عام 2020.
وأشار الباروني إلى أن الحديث لا يدور عن “تجاوز شكلي” للمجلسين، بل عن تحييد فعلي لدورهما، إذا ثبت عجزهما أو تعمدهما تعطيل المسار الانتخابي، خاصة في ظل تضارب المصالح داخل المجلسين وارتباط استمرارهما ببقاء المرحلة الانتقالية.
وختم بالقول إن البعثة تمتلك، في حال فشل التوافق، أدوات تدريجية متعددة، من بينها توسيع قاعدة الشرعية السياسية عبر إشراك ممثلين عن البلديات، وقيادات اجتماعية وقبلية، ونخب أكاديمية واقتصادية، إضافة إلى فاعلين مدنيين وشباب.
في المحصلة، يعكس تلويح البعثة الأممية بتجاوز مجلسي النواب والدولة عمق المأزق السياسي الذي تعيشه ليبيا، بين مؤسسات فقدت القدرة على إنتاج توافق حاسم، ومسار أممي يبحث عن مخرج قبل أن يتحول الجمود إلى واقع دائم.
وبين من يرى في خطوة التجاوز ضرورة لكسر الانسداد، ومن يعتبرها تجاهلاً لتوافقات ليبية أُفرغت من مضمونها بتدخلات داخلية وخارجية، يبقى السؤال مفتوحاً حول قدرة أي آلية بديلة على فرض حل مستدام دون إرادة وطنية جامعة.
ومع اقتراب إحاطة فبراير، تتجه الأنظار إليها لمعرفة هل ستتحول رسالة تيتيه إلى مسار عملي يعيد إطلاق العملية السياسية، أم ستبقى ورقة ضغط إضافية في مشهد تتنازع فيه الشرعيات وتغيب فيه الثقة؟

