في الأيام الماضية أثار منشورٌ للسيد محمد صوان – رئيس الحزب الديمقراطي – جدلًا واسعًا بعد أن عبّر فيه عنقلقه من موجةٍ من “الاندفاع العاطفي” تجاه رموز النظام السابق أعقبت الإفراج عن هانيبال القذافي في لبنان ، وقدذهب بعض الكتّاب ومنهم الأستاذ عبدالله عثمان إلى اعتبار كلام صوان ضربًا من الاستعلاء والإقصاء بل قراءةً قاسيةلحدثٍ إنساني بسيط.
لكنّ الحقيقة أن ما طرحه صوان لا يتعلق بفرح الناس بخروج سجينٍ بل ظاهرة عامة تستدعي انتباه قلة منالمهتمين وما يكمن وراء ذلك من مؤشرات تتعلق بالوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام وترشيده لتجاوز المعوقاتوالخروج من حالة الارتباك التي تتعرض لها المجتمعات بسبب حقبة الاستبداد والتخلف والذاكرةٍ القمعية التي لمتبرأ منها البلاد بعد.
أولًا: في التفريق بين الحدث والرمز
الخلط الذي وقع فيه كثيرون هو الخلط بين الشخص والرمز ـ بين الفرح الإنساني المشروع بعودة إنسان إلى أهله ،وبين الاحتفاء السياسي الممنهج بعودة “رموز منظومة” حكمت ليبيا بالحديد والنار لأكثر من أربعة عقود.
صوان لم ينكر على أحد إنسانيته لكنه قرأ المشهد بوصفه علامة سياسية على تحوّل في المزاج الجمعي قد يفتحالباب لإعادة إنتاج الاستبداد لا لأن الناس تحب الظلم بل لأنهم يتعبون من الفوضى فيستدعون الماضي كملاذ نفسي.
وهذا – في التحليل السياسي – ليس ازدراءً للشعب كما فهم البعض بل تحذير من آليات الذاكرة الجماعية حينتتعب من الحاضر وتنسى أن من دمّر مستقبلها هو من تسعى لاستعادته.
ثانيًا : حين تصبح المصالحة ذريعة للنسيان
الحديث عن المصالحة في ليبيا كثيرًا ما يُستعمل بمعنى النسيان لا التصالح، أي كمبرر لتبييض الماضي لا لمواجهته ،فصوان حين نبّه إلى خطورة هذا الخطاب كان يدافع عن جوهر المصالحة الحقيقية التي تقوم على الاعتراف والعدالةلا على العفو المجاني والتغاضي عن الجرائم.
فالمصالحة ليست عناقًا على شاشات التلفزيون بل هي اتفاق على ذاكرة مشتركة تحدد من ظلم ومن ظُلم لأنمجتمعًا بلا ذاكرة لا يمكن أن يبني ديمقراطية.
من هنا ، فإن الإصرار على تذكير الناس بتاريخ النظام السابق ليس انتقامًا بل تحصينٌ للوعي العام من التزييف (ولازالالمجتمع في خطر اذا نشأ جيل لا يعرف ما خلفته حقبة القدافي)
ثالثًا: في أزمة القراءة الانتقائية
بعض القراءات – مثل ما جاء في مقال الأستاذ عبدالله عثمان – وقعت في الانتقائية ، فالتقطت نبرةً من منشور صوانواغفلت السياق الفكري والسياسي الذي يستند إليه.
فالرجل لم يتحدث بوصفه “محللًا نفسيًا” كما قيل ، بل بوصفه سياسيًا يحلل سلوكًا جمعيًا يراه خطرًا على التحولالديمقراطي.
إنّ وصفه للحنين بأنه “حنين القطيع إلى محبسه” ليس إهانة للأفراد بل تشخيص بلاغي لظاهرة التبعية التي تجعلالناس تلجأ إلى الجلاد حين يعجزها الواقع وهنا يتعين على النخب الصادقة مثل صوان التنبيه وتبصير الناس
ولذلك فالنقد الذي وُجه إليه – استعراضي عاطفي رغم ما فيه من حشو مصطلحات بلا دلالة – تجاهل أنالديمقراطية لا تُبنى على إنكار الماضي بل على محاسبة الماضي كي لا يتكرر ولا يستمر تأثيره السلبي
رابعًا : الديمقراطية ليست حيادًا بين الجلاد والضحية
من المثير للسخرية أن يُلام من ينبه إلى خطر عودة رموز القمع باسم “الحياد” و“الانفتاح” ، فالديمقراطية كمايفهمها صوان ليست مساواةً بين القاتل والمقتول ولا بين من قاد البلاد إلى الخراب ومن حاول انتشالها منه.
الديمقراطية لا تعني تمييع الحقائق بل هي التزام أخلاقي قبل أن تكون آلية انتخابية ، أما من يرى أن التحذير من رموزالاستبداد إقصاءٌ فليتذكر أن الإقصاء الحقيقي هو إقصاء الذاكرة والعدالة لا إقصاء من تلطخت أيديهم بالظلم.
خامسًا: بين النقد والتحريض
يحق لأي كاتب أن ينتقد خطاب محمد صوان لكن من الخطأ تحويل النقد إلى تحريض ضد فكرة الوعي السياسي التيطرحها ، فحين يُقال إن صوان “يكره التعاطف الإنساني” فذلك تحريف صريح لخطابه ، فهو لم ينكر التعاطفوتجاوزه بل يكره أن يُستعمل التعاطف أداةً لطمس الجريمة وتلميع الجلاد.
إن ما كتبه عبدالله عثمان من جدالٍ أدبي اشبه بالسفسطة ـ وإن كان يستحق النقاش إلا أنه يغفل أن الزمن الليبي لميعد يحتمل التزيين اللغوي للذاكرة لأن التجميل في السياسة لا ينتج إلا مسوخًا جديدة.
سادسًا: نحو وعي لا يحنّ إلى سجّانه
المشكلة التي أراد صوان الإشارة إليها ليست في الناس بل في الوعي الجمعي الذي يُصاب بالإعياء فيستدعي جلادهالقديم.
وهو في ذلك لم يخرج عن منطق التحليل السياسي الرصين الذي تطرحه التجارب في العالم بأن الشعوب المنهكةمن الفوضى تميل إلى الماضي القويّ حتى لو كان مستبدًا.
لكنّ مسؤولية النخبة – كما يرى – هي أن تحمي المجتمع من وهم الاستقرار الزائف وأن تُذكّره بأن الحرية مهما كانتفوضوية أفضل من طمأنينة السجون.
أخيراً أقول بأن المعركة اليوم ليست بين من يفرح بخروج سجين أو يحزن عليه ، بل بين من يريد أن يتعلم منالماضي ومن يريد أن يعيده.
ولعلي أنوه اني قرأت منشوراً لمصطفى الزائدي لا يستحق الرد لأنه عبر فيه عن نفسية مشبعة برواسب الماضيوعقده
ولعلّ ما قصده محمد صوان وما لم يفهمه البعض هو أن الوعي الديمقراطي لا يقاس بالمشاعر بل بالقدرة على الفرزبين الرحمة والتبرير بين التعاطف والتمجيد و بين التسامح والنسيان.
إنّ الدفاع عن قيم الثورة ليس عداءً للمصالحة بل وفاءٌ لذاكرة وطنٍ لا يزال يبحث عن خلاصه بين أطلال الأمس وآمالالغد.

