في مشهدٍ يعكس عمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، أطلق محافظ مصرف ليبيا المركزي، ناجي عيسى، تصريحات صريحة وصادمة خلال لقاءٍ اقتصادي، أكد فيها أن المصرف يعمل وسط انقسامٍ سياسي وإداري حاد بين حكومتين ووزارتين للاقتصاد والمالية، مما يجعل رسم أي خطة اقتصادية موحدة أمرًا بالغ الصعوبة.
وقال عيسى: “بصفتي محافظًا أنني أعمل في ظل حكومتين وواقعٍ منقسم بين وزارتي الاقتصاد والمالية، فكيف يمكننا رسم خطة لإنشاء شركة قابضة والعمل من الشهر القادم في ظل هذا الانقسام؟”
وأضاف أن المصرف لا يملك “حلولًا سحرية”، وأن استمرار الانقسام يُفقد الدولة القدرة على تحقيق أهدافها، كاشفًا أن الدولة تحتاج، في ظل وجود الحكومتين، إلى نحو 3 مليارات دولار شهريًا، بينما لا تتجاوز الإيرادات مليارًا ونصف فقط.
وحذّر من أن انخفاض أسعار النفط إلى 52 دولارًا سيجعل الدولة عاجزة عن دفع المرتبات، قائلاً: “لولا قطاع النفط، لا يوجد لدينا اقتصاد.”
وتساءل عيسى عن مستقبل الاقتصاد الليبي:
“هل ستستمر الدولة في توظيف أكثر من 2.5 مليون موظف؟ وهل ستدفع مرتبات تصل إلى 80 مليار دينار على حساب التنمية؟”
تصريحات المحافظ أثارت تفاعلًا واسعًا في الأوساط السياسية والاقتصادية.
تسوية سياسية
رئيس الحزب الديمقراطي محمد صوان اعتبر أن ما صرّح به محافظ المركزي “يؤكد خطورة استمرار الانقسام السياسي”، محذرًا من أن غياب التسوية سيؤدي إلى “تفاقم الأزمة وتوسعها إقليميًا ودوليًا”، في ظل تصاعد أنشطة غسيل الأموال والتهريب وتمويل الإرهاب على حدود ليبيا.
وقال صوان في بيان له إن كلام المحافظ يؤكد بوضوح خطورة استمرار الانقسام، وصوابية مساعي الحزب لإيجاد تسوية توحّد مؤسسات الدولة وتنهي الانقسام والانهيار المتسارع سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
غياب التوافق
أما عضو المجلس الأعلى للدولة أحمد بوبريق، فقد رأى أن تصريحات المحافظ “تعكس بصدق حجم المعاناة التي تعيشها مؤسسات الدولة بسبب الانقسام”.
وشدّد في تصريح لصحيفة الرائد على أن “المصرف المركزي يحتاج إلى بيئة موحدة وميزانية وطنية واحدة ليتمكن من أداء دوره في ضبط الإنفاق ودعم الإصلاحات”.
وأكد أن غياب التوافق السياسي يؤدي إلى ضعف التنسيق بين المؤسسات الاقتصادية، ويحدّ من فاعلية السياسات النقدية والمالية، مضيفًا أن استمرار هذا الواقع سيؤدي إلى اتساع الفجوة بين مراكز القرار، ما ينعكس سلبًا على معيشة المواطن وفرص التنمية.
من جانبه، أكّد عضو المجلس الأعلى للدولة خليفة المدغيو أن “المضي في التسوية السياسية أصبح ضرورة”، معربًا عن أمله في أن يشكّل الحوار المعلن من البعثة الأممية “نقطة تحول نحو توحيد البلاد ومؤسساتها الاقتصادية”.
انتهى زمن الأمنيات
الخبير الاقتصادي عبد الحميد الفضيل قدّم قراءة أكثر تشاؤمًا، معتبرًا أن تصريحات المحافظ تمثل “النتيجة الحتمية لتحذيراتٍ تجاهلتها الحكومات المتعاقبة”.
وقال الفضيل:
“في ظل الإنفاق الثلاثي المنفلت، لم تعد الوعود بتحقيق استقرار نقدي سوى أحلامٍ مؤجلة… انتهى زمن الأمنيات وبدأ زمن الحقائق.”
وأشار إلى أن المصرف يواجه طلبًا متزايدًا على النقد الأجنبي “لا يملك أدوات كافية لمجابهته وفقًا لسعر الصرف الحالي”.
الاحتياطي النقدي والخيارات المحدودة
وفي خضم الجدل، أعلن مصرف ليبيا المركزي أن الأصول الأجنبية بلغت 99 مليار دولار، مؤكدًا أنه سيلجأ لاستخدام 2 مليار دولار من الاحتياطي النقدي إذا تطلب الأمر، للحفاظ على استقرار سعر الصرف وتغطية طلبات التجار والموردين.
إلى أين يتجه الاقتصاد الليبي؟
وبين تحذيرات المحافظ ودعوات السياسيين للتسوية، يظل السؤال مطروحًا في الشارع الليبي:
هل يستطيع الاقتصاد الصمود في ظل هذا الانقسام وتراجع الإيرادات؟
وهل تنجح الأطراف السياسية في الوصول إلى تسوية تُنقذ ما تبقّى من مؤسسات الدولة قبل أن تدخل البلاد مرحلة الانهيار الاقتصادي الكامل

