in

بيان امتنان في حقِّ حُسن الظنّ

بالأمس فاجأتني الشبكة الدولية بحملة إعلاميّة، هي أشبه بالمعزوفة السيمفونيّة، في حقّ نصٍّ، ظننتُه مغترباً عن الواقع الثقافي الحداثي، فإذا بلفيف الأخيار يبرهن لي على سوء ظنّي، في تجربة ملحميّة تتغنّى بالقيمة في هذا النصّ، في ظلّ حلول موسم الرهان السنوي على الفوز بجوائز نوبل إجمالاً، فرع الآداب تحديداً، التي احتكرت أجناس الجدل في كل مرة، تسفيهاً للنزعة السارية، المحكومة بالمثل القائل: «عن الذائقة الجمالية لا يختلفون»، فإذا بسَدَنة الجائزة يتّفقون في كل الفروع، ولكنهم أبوا إلّا أن يدمنوا الخلاف في هذا الفرع بالذّات، ربّما ليبرهنوا على إمكانية التوافق في كل أمر، باستثناء ترجمان الجمال الشقيّ: الأدب! ربّما تمويهاً من محفل الدهاة لحقيقة الصراع المخفي وراء قناع الموقف من الجمال، لطبيعته الأخلاقية، المستعارة من المقياس، المعتمد في فلسفة الجائزة، التي لم تعد معنيّة بالقيمة في النصّ الأدبي، ولكنها صارت معنيّة بالهوية في الشخص، التي تخضع للإنتماء الأيديولوجي، أو الموقف السياسي، أو حتّى الولاء العرقي، بل ولحسابات أخرى لم تعُد تُخفَى على أحد! فالمعروف، في تقييم أية تجربة إبداعيّة، هو تحكيم العمل، فإن لم يفلح العمل في إقناع المحفل، فلا مفرّ من الاحتكام إلى النزاهة، ولكن النزاهة طرف مهزوم دوماً، أمام سلطة الحظّ! الحظّ المشفوع دوماً بمؤهّلات منتدبة من خارج السياق!

كنتُ معتكفاً لقراءة مجلّد ديكارت «الدليل على وجود الله»، عندما اقتحمت حملة الأخيار خلوتي بترجمانٍ هو مريم، التي قدّمت لي بياناً مختزلاً عن الفحوى، كعادتها، فلم أملك إلّا أن أستشعر الشفقة على هؤلاء النزهاء بموقفهم النبيل من نصّي المتواضع، لأكتشف أنهم هم، لا سواهم، في الواقع، جائزتي، الجديرة بأن أحاجج بها، لأنها منزّهة عن خبث الأيديولوجيا، وبريئة من لوثة السياسة، ولا تعترف بأي انتماء عرقي أو ديني أو نفعي، لأنها تتنفّس الحماس انتصاراً لثروة يتغنّى بها النصّ على مساحة تزيد على التسعين مؤلفاً، على مدى ستّين عاماً، تُوّجَت بعشرات الجوائز الأدبية الدولية والعربية، وترجمت إلى كل لغات العالم، لا أملاً في نفع، ولا طلباً لسلطان، ولكن أداءً لما عاهدتُ الله عليه، منذ الطفولة، على إنصاف وطن الأنبياء: الصحراء المغتربة روحاً وحرفاً، التي لا يرى فيها عالم اليوم سوى مستودع للطاقة، ولكل أجناس الثروات الطبيعية، أمّا حقيقتها كمسقط رأس التكوين، ومسقط رأس كل النبوآت، وماضيها التاريخي الثريّ، وتراثها المنسي، وحضاراتها المفقودة، وما تتكتّم عليه من وجودٍ دراميٍّ ميثولوجيّ، ليحيا أهل المكان اليوم واقعاً مأساوياً، تمارس فيه الإبادة العرقية الجماعية، ضدّ مكوّنَيه العرقيّ والثقافي، سواء الأمازيغي أو العربي، فذاك ترفٌ لم يكن ليعني شيئاً لسدَنة المحفَل، ولا للحكومات التي يمثّلها المحفل، ولا للضمير العالمي، الذي يأبى في كل مرة إلّا أن يلوّح بالهوية التي تشهد على موته! وأحسب أن حملة فرساننا البطولية، لن يتردّد رموزها في أن يشاركوني ابتسامة ذات معنى، عندما يعلمون أن السيّد كراسناهوركاي، المجري، الفائز بالجائزة هذا العام، كان زميلي في القائمة القصيرة لـ«المان بوكر الدولية»، الأمّ، في دورتها عام 2015 بلندن، ويطيب لي أن أهنّئه صادقاً، يقيناً منّي بأن الجائزة التي استنزلتموها بحملتكم الباسلة، هي أقوى شهادة على تفوّق البراءة على سلطان الباطل، لأن حسن الظنّ موقف أخلاقي في تقييمٍ، القيمة فيه وسام تشريف، أمّا الجائزة في حقّه فمجرّد وثيقة تعريف، في نصٍّ لم يعد، باعترافكم، في حاجة لشهادة تعريف!

What do you think?

0 نقاط
Upvote Downvote

كُتب بواسطة سلسبيل الرايد

أفريكا إنتليجنس: مؤسس “بلاك ووتر” يعود إلى ليبيا عبر بوابة الطاقة.. “إريك برنس” يخطط لمنتدى أمريكي–ليبي في طرابلس

اشتباكات مسلحة في الزاوية وسط صمت حكومي