Menu
in

الدعوة لتعويم الدينار هي دعوة لإغراق الدينار ووَأده، وهو حق أُريد به باطل!!

تخرج علينا هذه الأيام بعض الأصوات النشاز التي تطالب بتعويم الدينار، وتحت ظروفنا وواقعنا الاستثنائي هذا، هذا الواقع المرير الذي نعيشه اقتصاديًا وسياسيًا، وحتى وطنيًا.

وفي الوقت الذي لا ننكر فيه مبدأ التعويم للعملات المحلية كمبدأ اقتصادي مالي ثبتت في بعض الأحيان وفي بعض الدول جدواه، ولكن أي دول تلك؟ أهي تعاني من عدم استقرار سياسي واقتصادي مثل حالنا؟ نعم، تلك الدول تبنّت فكرة التعويم، ولعل بعضها نجح في أن تكون نتائج تعويم عملتها إيجابية أكثر منها سلبية، ولكن نحن نختلف!

بعد انهيار اتفاقية بريتون وودز، ظهرت اتفاقية سميثسونيان في سنة 1971، والتي سمحت للدول بتعديل سعر صرف عملاتها المحلية بنسبة لا تتجاوز 2.25%، إلا أنها لم تستمر طويلًا، فقررت بعض الدول الصناعية وعلى رأسها اليابان تعويم عملاتها في بدايات 1973، وعلى مر الزمن نجحت تجربة تعويم العملات وتبنتها الكثير من الدول!

ولكن، ما هي اقتصاديات تلك الدول؟ وما آلية أسواقها؟ وما قوة موازين مدفوعاتها؟ وتنوع دخلها؟ وسرعة استجابة سياساتها النقدية لتلك المتغيرات التي يمكن أن تظهر بين الحين والآخر في أسواق وأسعار صرف عملاتها؟
هذه أسئلة لا بد من الإجابة عليها قبل التفكير في تعويم أي عملة!

دعنا نتحدث باختصار عن واقعنا، نحن دولة تتجاذبها الانقسامات السياسية، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي بكافة أركانه.
نحن دولة ريعية تعتمد على مصدر وحيد للدخل لا نتحكم في كمياته، ولا أسعاره، ولا حتى إنتاجه وتقنياته.

نحن دولة لا توجد لدينا أي سياسات نقدية يمكنها التعامل مع تغيرات أسعار الصرف، بل إن أدوات السياسة النقدية معطّلة بحكم القانون، ناهيك عن عدم وجود جهاز مصرفي وشركات صرافة تتفاعل مع معطيات وأساسيات التعويم.
مصرفنا المركزي (كان الله في عونه) غارق في معالجة السيولة، وتزوير العملة، وفتح الاعتمادات، وحكومات منقسمة، ومجالس تشريعية متخاصمة، وحكومات ظل أخرى غير معلنة.

نظرية التعويم لكي تكون فاعلة، لا بد لها من قوى عرض وطلب حقيقية وفي إطار منافسة كاملة مع سياسات نقدية مصاحبة وفورية، كل هذا مشفوع باقتصاد قوي يتمتع بميزان مدفوعات إيجابي، ومستند إلى تنوع مصادره.

أما نحن، فالحاكم الفعلي هو سوق المشير (والأسواق الفرعية الأخرى في زليطن وبنغازي وغيرها).
في هذا السوق يتحكم مجموعة محددة في عرض الدولار، وفي شكل احتكار قِلّة، هم من يضع السعر ويحدد منحنى العرض والطلب، والمركزي يقف مشدوهًا من وراء نوافذه المطلة على سوق المشير!

هذه ليست سوقًا حرة، ولا تقاطع عرض وطلب يُساوي سعرًا، بل هي سوق محتكرة تمامًا يتحكم فيها التجار، ويموّلها الفاسدون من خلال غسيل أموالهم الفاسدة!!
أولئك الذين سيشترون الدولار بأي سعر، لأنهم ببساطة سيحوّلونه إلى حساباتهم في إسطنبول وغيرها ليتم غسله، ثم ربما يعود بعضها لسوق المشير ليتم بيعه بسعر أكبر، وأرباح تعجز حتى الحاسبات اليدوية عن حسابها!
ناهيك عن الاعتمادات المستندية التي ربما لا يتجاوز توريد بضائعها 50% من قيمتها، والباقي إما يبقى خارج البلد أو يتم تمويل سوق المشير من خلاله وبيعه بأرباح خيالية!!

إذًا، المشكلة يا سادة ليست في نظرية التعويم وصلاحيتها وأهميتها في الأدب الاقتصادي، بل المشكلة في واقعنا المرّ المؤلم، الذي ربما يجعل دينارنا يحتضر باستمرار، وربما يُوأد، ولينعكس سلبًا على حياة المواطن، وخاصة في ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وفي شكل تضخم مقيت لا يستطيع المواطن البسيط تحمّله، ولا يستطيع حتى المركزي التعامل معه!

للأسف، هذا ما يدعو له البعض هذه الأيام، وهو حق من الناحية النظرية، وباطل من الناحية الواقعية، وأهداف المطالبة به في هذا الوقت… ولا أعمم.

المصدر: صحيفة صدى الاقتصادية

كُتب بواسطة Juma Mohammed

Exit mobile version