الجزء القديم والتاريخي من مدينة درنة هو بالأساس مقام على دلتا وادي درنة (بالخريطة المرفقة الدلتا باللون الوردي والوادي باللون الأحمر). كانت هذه هي دلتا الوادي الذي تنزل إليه المياه مندفعة بملايين الأمتار المكعبة في أوقات الغيث من حوض التجميع (575 كم مربع) الذي يبلغ ارتفاعه في أعالي الحوض أكثر من 700 متر فوق مستوى سطح البحر. وتنحدر المياه في مجرى الوادي بقوة لتجتاز مجراه الضيق جدا جنوب درنة (في بعض المواقع عرض المجرى حوالي 100 متر فقط)، ثم تنتشر المياه المندفعة بقوة من الأعالي والخارجة من ضيق الوادي في تلك الدلتا المتسعة، التي لا ترتفع عن مستوى البحر إلا بضعة أمتار. هكذا كان الأمر عبر التاريخ الجيولوجي للمنطقة، ونتيجة لذلك تكونت دلتا خصبة ذات تربة عميقة نسبيا قامت عليها المدينة الزراعية بالأساس.
كل المنطقة الملونة باللون الوردي هي الدلتا التي كانت وستظل متنفس الوادي، وعرضة للفيضان ما بقي هذا الوادي الكبير. الدلتا في السابق كانت مزارع للخضروات والفواكه، التي لها قدرة أكبر على امتصاص قوة وتأثير الفيضان. واليوم تحولت الدلتا إلى شوارع ومباني ومنشآت ومناطق سكنية مكتظة، بعضها مغطى بالخرسانات الأسمنتية، وبعضها الآخر مكسو بالأسفلت والأرصفة، واختفت المناطق المفتوحة والزراعية التي لها قدرة على امتصاص قوة الفيضان بشكل طبيعي.
الجزء الأول من المعضلة الأبدية للمدينة أن طبيعة ومورفولوجيا الوادي يستحيل معها تغيير مجراه لأنه ينحدر بين جبلين شاهقين وبعمق كبير جدا (جوانب الوادي قرب المدينة ارتفاعها يتجاوز 230 مترا، بينما عمق مجرى الوادي حوالي 25 مترا عن مستوى سطح البحر). والجزء الثاني من المعضلة أن المدينة أنشئت على فوهة هذا الوادي الكبير وفي مناطق تنفيس الفيضان.
إذا لم توجد معادلة آمنة لحل هذا التناقض الفج المتمثل في وجود مدينة على دلتا وادي كبير وخطير، سيظل سكان هذه البقعة يواجهون تطرفات هذا الوادي ما وجدوا على أرض هذه الدلتا، وطبعا بعد فاجعة الأيام السابقة فإن السدود ليست حلا آمنا بالمطلق.
لذلك ستظل هذه المدينة وكما كانت عبر تاريخها الطويل تتقاسم الدهر بين أيام فرح وزهو وعمار، وأيام حزن وبكاء ونحيب وألم. ولعل ذلك هي طبيعة الحياة بهذه المدينة وسر وجودها.
المصدر : الأكاديمي منعم سعد