قبل ثمانينيات القرن الماضي بقليل عانت تركيا مخاضا حزبيا عميقا وطويل الجدال، ومن بيروقراطية في القرار وانسدادا للأفق السياسي وانهيار للتعاملات السياسية السلسة بين الأطراف السياسية والأحزاب، كل ما سبق سمح للعسكر بالظهور للواجهة، وقاد في سبتمبر 1980م الجنرال كنعان ايفرين انقلابا عسكريا جعل منه رئيسا للبلاد، بينما سجن ونفى مجموعةً من رؤساء الأحزاب وسياسيي البلاد.
تحرك الجيش التركي على الرغم من أنه انقلاب صريح وتدخل عميق في شؤون سياسة البلاد إلا أنه وفي جوانبه المضيئة صدر للأتراك شخصيةً مهمة، ولها كثير الفضل فيما وصلته تركيا اليوم ألا وهو نائب رئيس الوزراء ومن ثم رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية تورغوت أوزال أو توركوت أوزال من 1980 حتى 1993م.
“أوزال” مهندس وسياسي عين في أرفع وأهم مناصب الدولة بعد انسداد سياسي وانقلاب عسكري وحروب أهلية وعرقية واقتصاد شبه مدمر كان يصنف دولته كدول شرق أوروبا الاشتراكية البائسة، وعلى الرغم من ذلك نجح “أوزال” في إنعاش الاقتصاد من خلال فتحه على السوق الحرة وتشجيعه التصنيع والتصدير.
من أبرز ما قام به على الصعيد الاقتصادي، وضعه خلال فترة ترأسه الحكومة الأسس والمعايير لتغيير وإعادة هيكلة الاقتصاد التركي بما يتجانس مع نظام السوق الحرة، وعلى أثر ذلك نجح في رفع الدخل القومي للفرد إلى أكثر من 1600 دولاراً، كما أنه نهض بالاقتصاد محققاً معدلات نمو بمتوسط 5.2% سنوياً وهذا في حقيقة الأمر وخلال سنواته العشر يعتبر رقما مأهولا في عالم الاقتصاد.
كما تمكن “أوزال” من تحويل وتوجيه الاقتصاد التركي نحو المنافسة العالمية، من خلال التشجيع على الإنتاج والتصدير إلى الخارج، مستبدلاً بنموذج النمو القائم على الاستيراد نموذجاً قائماً على التصنيع والتصدير، لتُنشأ مناطق صناعية في معظم المدن التركية. وتقطف تركيا حالياً ثمار ما زرعه “أوزال” في البرامج المحلية للصناعات الدفاعية العسكرية والتنموية بشكل عام.
كان أمام “أوزال” طريقان إما التوجه لصندوق النقد الدولي والاقتراض والغرق في الديون والفوائد كما تفعل كثير من الدول اليوم، أو الاستناد على سواعد الأتراك وبناء الوطن من الداخل لا من الخارج وتقوية الصناعة والزراعة وتنمية جميع مناحي الاقتصادية في البلاد، ما عاناه أتراك الثمانينات والـتسعينات من القرن الماضي يجنيه أبناؤهم اليوم وسط وضع اقتصادي جيد وخبرة صناعية ممتازة وتموضعٍ في السوق العالمية بقيمة كبيرة تفتح المجال أمام كبار المستثمرين للاستثمار.
الفكرة تكمن في أن الإنجازات قد لا تكون نتائجها وقتية فإن ما تنعم به ليبيا اليوم من استقرار على مستوى هدوء الحرب الأهلية بتدخلات إقليمية وخارجية، ومن توافر للنقد نتيجة تضخم سعر الصرف واستمرار ضخ النفط وانتعاشة سعر الخام في الأسواق العالمية جاء نتيجةً لنتائج معركة طرابلس وما تلاها من أحداث محلية وعالمية أعقبت هذه النتائج، فتوقيع وقف إطلاق النار وتبادل الرحلات الجوية التجارية بين برقة وطرابلس ، وقيام الأمم المتحدة بعملية سياسية تشكل على إثرها المجلس الرئاسي والحكومة المؤقتة، جاءت كنتائج لنتائج هذه المعركة، فلو أن معركة طرابلس انتهت بغير هذه النتائج لرأينا خريطة سياسيةً أخرى للبلاد لن تكون كهذه الخريطة أبدا، والتي أوصلت مغمورين في عالم السياسة لسدة الحكم في ليبيا وإن اختلفت كفاءاتهم.
معركة طرابلس التي كان لابد من خوضها لم تكن نزهة نقرر المشاركة فيها أو لا نشارك، بل كانت فرضا غيرت نتيجتها معالم العالم الإقليمي وجعلت من الإمارات تنفتح على قطر وتركيا وجعلت من مصر تصالح تركيا وتراجع حساباتها ومعاملاتها مع طرابلس، نتائج معركة طرابلس أنهت سيطرة القطب الواحد في الخليج، وأرجعت اللعبة إلى قطبين يظهران اليوم بمظهر التصالح ولربما حتى حين.
لم يكن أحد يتمنى الحرب والدمار والخراب، ولكن حينما تُفرض فلا مفر من هذا القدر، كل السياسيين يمنون أنفسهم بخدمة شعوبهم وتحقيق غاية رضى أنفسهم والرخاء لشعوبهم، ولكن الظروف قد تتغير في كثير من الأحيان، انظر إلى الأوضاع اليوم وابحث عن نتائج النتائج وتذكر المواقف بين الشجاعة والجبن وبين الثبات والهروب وبين الوهم واليقين وبين العمل والتمني على النفس.
ما تجنيه اليوم لم يكن أساسه اليوم أبدا فمن يرث ليس كمن يتعب ويشقى ويربي الثروة التي ترثها، ومن يصنع السلام ليس كمن يعيش نتائجه فجاء هذا بعد سهر وجهد وكد وعرق وكمد أكثر مما يتصوره الآخرون، معركة القضاء على الإرهاب في سرت لم تكن قالبا يحلله محلل سياسي كان في فنادق القاهرة إو إسطنبول بينما تجزر قوات الظلاميين وقود البلاد شبابها وتسير يوميا أنهار الدماء، فتنعم سرت وشمال أفريقيا من خلوه من الإرهابيين.
عندما وقف تشرتشل في مجلس العموم وألقى خطابه الشهير الذي جاء فيه: “إننى أؤكد لمجلس العموم كما سبق أن أكدت لأولئك الذين انضموا لهذه الحكومة: أننا ليس لدينا ما نقدمه غير الدم والتعب والدموع والعرق، والآن ونحن نواجه محنة من أكثر المحن ضراوة وشراسة أمامنا شهور طويلة من الصراع والمعاناة والكفاح، وإنكم لتتساءلون ما هى سياستنا؟ وأنا أؤكد لكم أن سياستنا هي خوض غمار الحرب بحرا وبرا وجوا بكل ما أوتينا من قوة، وبكل ما يسخره لنا الله من عزم وثبات، وأن نشن الحرب ضد قوى الجبروت والطغيان الوحشي الذى لم يسبق له مثيل في بشاعته وارتكابه أبشع الجرائم ضد الإنسانية، تلك هى سياستنا وقد تتساءلون ما هدفنا؟ وأجيب عليكم فى كلمة واحدة: هدفنا هو النصر والنصر مهما كلف، والنصر بالرغم من كل الإرهاب ولا شيء غير النصر، النصر مهما بعدت علينا الدروب وشقت حيث إنه دون النصر لن يتسنى لنا البقاء” فهل يتصور عاقل أن تشترشل أراد الحرب فعلا مع النازيين، وإذا ما تنازل للنازيين كما أراد البعض فكيف سيكون شكل أوروبا والعالم اليوم، هل تراها أنه من السهل أن يقول رئيس حكومة لشعبه ” إننا ليس لدينا ما نقدمه غير الدم والتعب والدموع والعرق” ولكن انظر نتائج الدم والتعب والدموع والعرق.
لابد من التعب لتحقيق الرفاه، ولا بد من خوض الحرب لتحقيق السلام ولابد من الخوف ليعم الأمن، هذه أقدار الله على العباد، فلا تنظر لرغد اليوم ناسيا الفضل وناكرا جميل من تعب بالأمس.