ما أن تم الإعلان رسميا عن فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن ونائبه كاميلا هاريس بكرسي الرئاسة في البيت الأبيض حتى هبت رياح غير معهودة على الشرق الأوسط !، تواصل بين تركيا ومصر، وغزل خليجي، وحراك دبلوماسي أممي في ليبيا، ومعارضة في روسيا، إلى هدوء ايراني .
بايدن المنتشي بالنصر يمتلك دافعين: الأول هو توجه الديمقراطيين بالأساس نحو تعميم مبادئ حقوق الانسان بشكل أكبر ، وإنهاء العنف والدكتاتوريات، ومبدأ آخر هو إصلاح الفوضى التي تركها سلفه دونالد ترامب الجمهوري خلفه، من فوضى في العلاقات الدولية إلى ازمات مع الصين، إلى حميميةٍ مع روسيا، إلى تماه مع تمادي الإمارات في المنطقة.
فوضى ترامب في ليبيا
بانتهاءٍ فترة رئاسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تبين للجميع حجم الفوضى التي تركها خلفه، وكيف كان يدير الملف الليبي بسياسة رد الفعل دون إدارة أو تخطيط، فترامب وطيلة سنواته الأربع الماضية تعاطى مع السيسي وتحالف مع إدارة بن سلمان ومحمد بن زايد في ليبيا ودعم رؤيتهم بالسيطرة عليها عسكريا عبر وكيلهم حفتر وفعلا أعطى ترامب ضوءه الأخضر لحفتر عن طريق مستشاره لشؤون الأمن القومي جون بولتون بالتقدم نحو طرابلس، والسيطرة على معقل حكومة الوفاق المعترف بها دوليا وصاحبة الشرعية بقرار أممي بعد اتفاق الصخيرات.
قوبل عدوان حفتر بمقاومة شرسة كانت مؤشرا يحث ترامب على ان يعيد حساباته، لكنه وبعد بداية العدوان بأيام قليلة اتصل شخصيا بحفتر بتنسيق من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وهنأه على مكافحته للإرهاب، وهو ما اعتُبر دفعةً أخرى للجنرال لمواصلة المسيرة وسط وضعٍ إنساني كارثي على تخوم طرابلس، وانتهاكات بشعة قامت بها قواته، ناهيك على أن الهجوم غير المبرر أساسا كان يسبق بعشرة أيام مؤتمرا أمميا ليبيا جامعا في غدامس الليبية لتنصيب سلطة جديدة وجمع الفرقاء الليبيين على طاولة واحدة.
كانت استشارات بولتون كارثية وأدت إلى موقف أمريكي مشوش هو أشبه بالمسخ، فأوروبا لها رأيها وروسيا لها مصالحها وحتى بومبيو وزير خارجية ترامب نفسه كانت تصريحاته عكس ترامب وبولتون، أقيل بولتون ولبس التهمة، إلى ظهور مرتزقة فاغنر إلى العلن في معسكر اليرموك ومنطقة صلاح الدين جنوبي طرابلس، وحادثة إسقاط منظومات بانستير المضادة للطائرات لطائرة للأفريكوم جنوبي طرابلس التي كانت مؤشرا خطيرا على تمادي الروس في مناطق نفوذ الأمريكان التاريخية!
هنا وقعت حكومة الوفاق الوطني مذكرة اتفاق تجارية ملاحية عسكرية أمنية مع أنقرة تنظمت بها صفوف المدافعين وعُززت بها الجبهات وحُقق انتصارٌ كاسح انتهى بسيطرة مطلقة للوفاق على غرب ليبيا وقاعدة الوطية وفرار فاغنر لجنوب ليبيا ومدينة سرت كل هذا كان بضوء أخضر أمريكي، من يرى مواقف ترامب من بداية أبريل 2019 وحتى نوفمبر من نفس العام ونتيجة ماحصل وتضاد ضوئيه الأخضرين يرى حقيقة العبث السياسي فعليا.
أزمة أضواء ترامب الخضراء
كل ما سبق أوصل المتصارعين في ليبيا الى مرحلة الـ لا انتصار، كما أن المشهد الأقليمي غاية في التعقيد، فألمانيا أم الاتحاد الأوروبي تبحث عن تسوية هادئة لا تقصي أحدا ، فيما دعمت فرنسا حفتر بكل ما أوتيت من سبل، بينما إيطاليا دعمت الوفاق على استحياء.
تركيا حليفة الولايات المتحدة الأمريكية تدعم الوفاق والإمارات والسعودية حليفتا الولايات المتحدة تدعمان حفتر، روسيا صديقة ترامب تتوغل في ليبيا وترامب نفسه عاجز عن حماية طائرات قواته في إفريقيا (افريكوم) في منطقة نفوذه جنوبي المتوسط.
توغل تركي يزعج الإمارات وتوغل روسي يزعج أمريكا بدعم إماراتي، وكله بضوء أخضر من ذات الجهة، رأي عام أمريكي غير راض عن علاقات ترامب بوتن وبن سلمان ومصالح أمريكية اقتصادية مع الاثنين، علاقات مخملية مع موسكو ونفط ليبي أمريكي مهدد تحت سطوة فاغنر.
رسم ترامب بأفعاله هذه الفسيفساء، ترك لخلفه حل هذه الشبكة العنقودية من التناقضات أمام موقع استرايجي مهم وأرض شاسعة وشعب قليل العدد وأكبر احتياطي نفطي موثوق في أفريقيا.
رياح بايدن القادمة من الغرب
استلم بايدن ملف ليبيا أمام تحديات أبرزها تحجيم التدخل الإقليمي، وخروج مرتزقة فاغنر وروسيا نهائيا والوصول الى البلد للاستقرار عن طريق حكومة موحدة توفر الخدمات وتجري الانتخابات الرئاسية والنيابية في مواعيد محددة.
بايدن أخرج السعودية نهائيا من ليبيا بعد قيامه بالضغط على بن سلمان عبر ملف خاشقجي وإيران وإنهاء دعم الولايات المتحدة لحرب السعودية في اليمن، بينما بدأت الامارات – بحسب صحف غربية – بتقليص نفوذها في ليبيا والبحث عن سياسة ناعمة قد تأتي عن طريق حكومة الوحدة الوطنية المنصبة حديثا في ليبيا، تركيا هي الأخرى متواجدة في المشهد الليبي ومن المرجح أن يسعى يايدن لإنهاء وجودها لكن ملف تركيا متشابك مع علاقات ثنائية في حلف الناتو وقاعدة انجرليك وقضية منظومة S400 وملف الأكراد ودورها في سوريا.
رياح لم تكن بحسب مراقبين راضية عن أداء حكومة الوفاق وتماهي بعض من نواب رئيسها مع روسيا وفاغنر، ولا عن مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي المنعقد في جنيف حيث أن إدارة بايدن بدأت منذ اليوم الثاني لإعلان النتائج في فتح تحقيق حول دفع رشاوي لأعضاء الملتقى، وهذا ما ستعرض نتائجه قريبا.
من الواضح أن رياح بايدن تهب باتجاه ديمقراطية راسخة في ليبيا عن طريق إخراج المرتزقة وتحجيم اللاعبين الإقليميين ولعب الدور الأبرز عن طريقها لا عن طريق وكلائها ولكن من يغتنم هذه الرياح قبل أن تسكن؟