حالة الاحتقان والغضب التي وصلها الشارع كانت نتيجة طبيعية لفشل حكومي يقوده المجلس الرئاسي ورئيسه فايز السراج، هذا الفشل الذي اصطبغ بصبغة فاقعة وداكنة من الفساد لا يمكن إخفاؤها أو التغاضي عنها، بل صارت تفاصيل إهدار الميزانيات المخصصة لحل أزمات المواطن المتفاقمة تدور على الألسنة، وتطالعك وثائقها على صفحات التواصل الاجتماعي، دون حلحلة لأزمات المواطن، بل يزداد الوضع سوءاً، ويترقّى الفاسدون في حاشية السراج، ويزدادون حظوة لديه، ويكلفون بمهامّ تفتح لهم آفاقاً جديدةً على الفساد الذين لا يخشون من ورائه حساباً أو عقاباً.
تجاهل السراج لدعوات الإصلاح المتكررة، وإفراغ حكومته من سلطاتها وتمكين الفاسدين من لجان الأزمات، وتخصيص الميزانيات الضخمة لهم، وانفراده بالقرار داخل المجلس الرئاسي باستغلالٍ واضح لحصانة الأمر الواقع، جعل حالة الفساد تخرج عن السيطرة، وأصبح الوضع غير المستقر للدولة يمثل للسراج وعصابة مستشاريه وزمرة الفاسدين من حوله بيئة خِصبة لاستنزاف مقدّرات الدولة وإهدار المال العام.
العدوان على طرابلس الذي دفع بالسراج إلى واجهة الأحداث وجعله (يسودُ غيرَ مسوّدِ) ومنحه أريحية القيادة دون محاسبة أو نقد، نغّص عليه التمتّع بهذه الأريحية إعلانُ وزير الداخلية فتحي باشاغا الحرب على المليشيات، مؤكداً أنها باب الفساد الأكبر في العاصمة طرابلس، وهو ما لم يرضَه السراج وآثر السكوت عنه طيلة فترة صدّ العدوان، ومع تصاعد وتيرة الفساد وضيق المواطن بالأزمات التي تخنقه حتى الإذلال والمهانة، كان إعلان باشاغا أن وزارته تضع في أولوياتها محاربة الفساد مؤشراً خطيراً يتهدد زمرة الفساد في العاصمة، وكانت ثالثة الأثافي بالنسبة لهذه الزمرة تضامن باشاغا مع مطالبات المتظاهرين، والتعهد بحمايتهم، رغم محاولة السراج حرمانهم من حق التظاهر بفرض حظر للتجول مدة 4 أيام، فكان قرار إيقاف باشاغا احتياطياً دليلاً واضحاً على أن تيار الفساد يسيطر على العاصمة طرابلس، وهو لا يقل خطورةً عن مشروع الاستبداد الذي حاصرها أكثر من 14 شهرا وانقلب خاسراً مهزوماً.
قد لا يعنينا شخص باشاغا ونحن نتعاطى مع هذه التطورات، فهو أحد الفاعلين في المشهد، ومواقفه وتصريحاته محل انتقاد مدحاً وذماً، ولكن لا يمكن تجاوز الموقف الواضح للرجل من ملف الفساد، خاصة المتعلق بالمليشيات التي تعتبر العاصمة طرابلس مصباحها السحري الذي يحقق أمنياتها في الثراء والغنى، ويؤكد هذا الموقف التفاعل الدولي الجاد معه، والانزعاج من المليشيات التي ترى فيه تهديداً لموارده الإستراتيجية التي توفر لها الرفاهية المدعمة بالسلطة التي تجعل منها فوق القانون.
المظاهرات التي شهدتها العاصمة طرابلس هي الأخرى أفزعت السراج وزمرة الفساد، وكلمة السراج التي تجاوزت النصف ساعة لم تقنع المواطن الغاضب حدّ الانفجار، فهو ينتظر إجراءات صارمة وإصلاحات جذرية لا يملك السراج أن يتبناها وهو يحتضن زمرة الفاسدين ويخدمهم بقراراته وتكليفاته، لذلك جاء قرار إيقاف باشاغا خطوة غير محسوبة أكدت لكل لمن تظاهر ضد الفساد أن السراج لن يحارب الفساد وهو يرعاه، ورغم محاولات السراج ومستشاريه إغراق المواطن بسيل من القرارات التي قد تلفته عن رفضه للفساد، فإنها كانت بمثابة الغثاء الذي ذهب جفاءً، وتعيينُ أحد أبناء مصراتة رئيساً للأركان في محاولة لتصوير القضية على أنها محاصصة مناطقية كذّبه مشهد استقبال باشاغا في مطار معيتيقة.
وأما مشهد التفات بقية أعضاء المجلس الرئاسي حول السراج وهو يحتال لنفسه والفاسدين من زمرته، فيؤكّد أن السبيل الوحيد لإنهاء الصراع والأزمات بالدفع نحو تسوية سياسية تقذف بالفشلة والعاجزين خارج المشهد، فما اجتمع هؤلاء إلا على بقائهم وإن تصارعوا على نفوذهم ومصالحهم.