in

مثل جدران مسندة تردد الصدى

يميز علماء الدماغ والأعصاب بين جزئين في عقل الإنسان، هما العقل الواعي ويرتبط به 10% من النشاط العقلي، فهو العقل الظاهري المدرك لما يدور حوله، وأسمى وظائفه التفكير. والثاني هو العقل اللاواعي أو ما يعرف بالعقل الباطن المرتبط بالجزء الأكبر من النشاط العقلي، وهو مخزن كل المعارف والخبرات التي يكتسبها الإنسان من كافة المواقف والمؤثرات، ولعل أبلغ تشبيه لهما ما ذكره عالم التحليل النفسي “فرويد” من أن الوعي هو قمة الجليد الظاهرة على سطح المحيط، أما اللاوعي فهو الجبل الضخم المختفي تحت السطح.

العقل الواعي مناط به العمليات الفكرية المنطقية والحسابية، والتعاطي مع المواقف الجديدة بالقبول والاستيعاب، قبل دفعها إلى العقل اللاواعي لتصبح عادةً تحضُر بشكل تلقائي كلما احتاجها الإنسان في مواقف مشابهة.

ومثال ذلك عندما يقود الإنسان السيارة للمرة الأولى يذهب تركيز العقل الواعي إلى الطريق مع أدوات التحكم والقيادة، ولا يأتي السائق بأي فعل آخر غير القيادة، وتكون كافة حواسه في حالة استنفار، وبعد أسابيع تصبح العملية اعتيادية، ويصبح بوسعه القيادة بسهولة والحديث مع مرافقيه واحتساء المشروبات والرد على التلفون، فما الذي جرى؟ لقد استوعب العقل الواعي خطوات ومهارات القيادة بالتمرين والتكرار، ثم دفعها إلى العقل اللاواعي، وباتت خبرة مخزنة كغيرها من الخبرات، وكلما جلس الإنسان للقيادة تحضر هذه الخبرة بشكل تلقائي.

ما ينطبق على مهارات تعلم القيادة ينطبق على المشاعر والعواطف والأفكار والقناعات والآراء، فاستجابة المرء لكل المواقف تحددها الخبرات المكتسبة بالتكرار والمخزنة في العقل اللاواعي، خاصة إذا كانت الاستجابة سريعة، فالتكرار معلم مثالي لبلورة الأفكار والتوجهات، حول مختلف القضايا والمواقف، وتخزينها في العقل اللاواعي.

تدريب الحيوانات المستأنسة على تأدية المهام المطلوبة منها يجري اعتمادا على قوة وسعة العقل اللاواعي، إذ يكابد الرعاة بعض المشقة في توجيه القطيع إلى المرعى والعودة إلى الحظائر في المساء، وبعد أيام يصبح الطريق مألوفا يجتازه القطيع من دون توجيه، والأمر نفسه ينطبق على الكلاب حسب الوظيفة المطلوبة منها الصيد أو الحراسة أو تعقب الأثر والرائحة، كل هذا يتم عادة بالتدريب والصبر والتكرار حتى تأخذ الخبرة المطلوبة مكانها في العقل الباطن.

ولعل المثال الأبرز هنا طائر الببغاء الذي يدهشنا بقدرته على تقليد الأصوات ومحاكاة البشر في نطق الكلمات فيدرّب على نطق كلمات وعبارات محددة بالتكرار حتى يتقنها.

وثمة قصة ذات رمزية عميقة عن الببغاء، تقول إن ملكا قال لجلسائه إن الشمس طلعت من الغرب اليوم وغربت في الشرق، فقال جلساؤه نعم هذا صحيح، وكان الببغاء صامتا، فأضاف الملك: بعد مطر أمس صار ماء البحر حُلوًا فوافقه جلساؤه مجددا مؤكدين أنهم شربوا منه ووجدوه أحلى من مياه الينابيع.

فقال الملك: القسوة على الشعب تنشر الأمن والطمأنينة، وكالعادة وافقه جلساؤه.

التفت الملك للببغاء وسأله: ما رأيك أيها الطائر؟

فأجابه: يا مولاي، الشمس تطلع من الشرق وتغرب في الغرب، والأمطار لا تُحلِّي ماء البحر، أما القسوة والبطش فيولدان عند الناس الخوف والخنوع.

غضب جلساء الملك وأقروا أن الببغاء عاقٌّ، محرّضين الملك على معاقبته، فأمر الملك بقطع لسانه. ومنذ ذلك اليوم فقد الببغاء القدرة على الكلام ولم يعد قادرا إلا على ترديد الكلمات والعبارات التي تُلقَّن له.

الدلالة العميقة في القصة هي نزع أداة النطق من الببغاء حين واجه الملك بالحقيقة، والمعادل لها بالنسبة للإنسان الحرية، فبمصادرة الحرية يلزم الإنسان الصمت، أو يتحول إلى ببغاء يردد ما تقوله السلطة.

هذا هو جوهر الأحزاب والتنظيمات العقائدية، قتل القدرة على التفكير والكلام خارج التعاليم المقدسة لدى الأعضاء؛ إذ يجري استقطاب الأفراد وتلقينهم منهج الحزب وأفكاره وشعاراته عبر عدة مراحل بآليات التلقين والتكرار والحفظ، حتى ترسخ في عقلهم اللاواعي، ومن غير المسموح الطعن أو التشكيك في صحة القواعد الفكرية التي يقوم عليها بنيان الحزب.

في النسخة الأخيرة من السلفية الإسلامية المعروفة بالجامية أو المدخلية، والمعتمَدة من المخابرات الأمريكية وفقا للخدمات التي تحتاجها الاستراتيجيات الأمريكية من الإسلام في المرحلة الحالية ـ يحرص الشيوخ على توجيه أتباعهم حول ما هو مسموح لهم بمطالعته من كتب وما ينبغي تجنبه، مع حملات ممنهجة لتشويه كل العلماء وكل الاجتهادات الأخرى المخالفة خاصة الداعية للخروج على السلطة إذا توفرت الأسباب، وبهذا الأسلوب يضمن القادة ولاء أتباعهم، ومن ثم تسخيرهم لخدمة الدور الذي لعبه أغلب رجال الدين عبر التاريخ، وهو التحالف مع السلطة لإخضاع الناس وهدم المعارضة.

التابعون غالبا من فئة الشباب الصغار الذين لا يملكون تجارب وخبرات ومعارف كافية تؤهلهم للتفكير والتدبر فيما يلقى في عقولهم، وبتنفيرهم من التعاطي مع الاجتهادات الأخرى، يتأهلون لتنفيذ المهام المطلوبة منهم، وفي المحاججة مع خصومهم تنطق ألسنتهم بما لقنوا من حجج وأدلة مخزنة في العقل اللاواعي تثبت صحة موقفهم، من دون اجتهاد أو إبداع، وهي الطريقة نفسها المتبعة لدى كل الفرق الدينية السياسية منذ فرقة الحشاشين في القرن الخامس الهجري إلى تنظيم داعش في القرن الحالي.

وفي الجانب العلماني اعتمدت الأحزاب القومية كحزب البعث والأحزاب الشيوعية الطريقة ذاتها، بتلقين الأعضاء تعاليم المؤسسين وكبار المنظرين، والتقليل من شأن الأيديولوجيات المغايرة، ويتناسب صعود العضو في مراتب الحزب طرديا مع تفوق مستويات تحصيله العقائدي وإخلاصه للحزب.

لا حوار حقيقي داخل الأحزاب والتنظيمات العقائدية ولا نقد، ولا اجتهاد مع نصوص المؤسسين والشيوخ والمنظرين، وهناك إجابات جاهزة لكل الأسئلة، وبيانات مناسبة لكل التطورات السياسية، ولا معارضة ولا تداول في مراكز القيادة، ولا أي نوع من الممارسة الديمقراطية داخل غرف مغلقة يتردد فيها صدى جمل مكررة إلى حد الملل.

هل وقفنا الآن على سبب فشل التجارب الحزبية في البلدان العربية؟

دراسات عملية عدة، توصلت إلى حقيقة زيادة التعصب للموقف أو الرأي بالحوار بين مجموعات تتبنى نفس الأفكار والمواقف، حيث يغذي الحوار المتبادل تعصبهم لمواقفهم، وحين يتلقون معلومات جديدة متنوعة ومتضاربة فإنهم يعالجونها بطرح كل الحجج غير المتوافقة مع رغباتهم وميولهم الراسخة في عقلهم الباطن.

عمليات التهيئة لترسيخ كل الأفكار والنظريات تجري بسلاسة في العقول المسطحة، الفقيرة من رصيد فكري وثقافي يحث على إعمال التفكير، والتمحيص، وطرح الأسئلة، والشك في ما يُعرض عليها قبل قبوله. في هذا العقول تنمو بذرة التعصب الذي يمتد وينتشر في المناخ المحكوم بسلطة استبدادية تمنع الاختلاف وتصادر الرأي الآخر.، ومن خلال سيطرتها على وسائل الإعلام، وقمع كل الأصوات المخالفة لتوجهاتها فإن هذه السلطة تضمن قيادة الناس إلى حيث تريد.

قال أحد المشاركين في الإبادة الجماعية برواندا “عندما تكون مهيأ على النحو الصحيح من خلال الإذاعات والنصيحة الرسمية فإنك تطيع بشكل أسهل حتى لو كان الأمر هو أن تقتل جارك”

المتعصبون مخلصون بشدة لمعتقداتهم عادة، ويرفضون أي تشكيك فيها، ولايقبلون النقاش إلا بينهم، وينفرون من ذوي الأفكار المختلفة، ولا يترددون في تسفيههم، وشتمهم، وإطلاق أقذر الصفات والنعوت عليهم، لذلك يبدو الحوار بينهم وكأنه يدور داخل غرفة مغلقة تردد جدرانها صدى كلماتهم وعباراتهم، ولاشئ أبعد.

حين يشتد التطرف وتبدأ الأمور في الاتجاه نحو العنف والقتل يقع الفرز، فيغادر المعتدلين ويبقى المتطابقون في التفكير ويزداد التطرف، تماما مثلما يؤدي تعريض أغلب المواد السائلة للحرارة إلى زيادة تركيزها. وقد أثبتت كل التجارب عبر التاريخ أن النزوع للعنف وكراهية الآخر تنتشر في المجتمعات التي تنفر من التنوع والاختلاف، بينما يتحقق التوازن والاعتدال في المجتمعات التي تحتضن كل الاتجاهات الفكرية والسياسية مع سلطة تضبط إيقاع حركة المجتمع وتطوره لتضمن عدم طغيان نمط واحد يجنح نحو إقصاء المتخلفين.

كانت هذه الحقيقة حاضرة في ذهن الشاعر والكاتب الإسباني “فرناندو آرابال” حين كتب عام1975 في منفاه رسالته لدكتاتور إسبانيا “فرانكو” الذي تحالف مع الكنيسة الكاثوليكية، وشن حربا باسم الملكية لاستئصال الجمهوريين والاشتراكيين، ليذكّره بالأساس المتين الذي قامت عليه حضارة الأندلس الزاهرة.

كتب آرابال :”قرون مرت على بلد كان الفلاسفة العرب فيه يبنون فكرا أصيلا، وعلى بعد شوارع قليلة منهم شيد اليهود صرح الكابالا، وأتى المسيحيون في الوقت نفسه برائعة الإنجيل، وهذا البلد كان إسبانيا.. تخيل حضرتك أن إسبانيا اليوم تستوعب الأنماط الثلاثة السائدة من التفكير: الديمقراطية والشيوعية والتدين، وترعاهم بكل حرية”

من ينشد الصواب عليه أن لا يركن لصدى صوته على ألسنة الآخرين، وينصت باهتمام للأصوات المختلفة. هذه الفكرة الذهبية كانت حاضرة بقوة في ذهن الرئيس الأمريكي السادس عشر “لينكولن”، إذ حرص على اختيار مستشارين مختلفين معه في الرؤى، وهيأ لهم المناخ ليعبروا عن رأيهم بكل أريحية، ووضعهم مقابل المستشارين المتوافقين معه لإنتاج القرارات الأكثر صوابا في نهاية الجدل، وذهب في هذا الاتجاه من رؤساء أمريكا في زماننا الرئيس “أوباما”، بينما سلك الرئيس “بوش” طريقا مختلفا وكان فريقه من اتجاه واحد، وتعاظم هذا السلوك مع الرئيس الحالي “ترمب” الذي أقال واستبدل أعضاء في فريق إداراته بصورة لم يعهدها البيت الأبيض من قبل.

إن من يستسلم بسهولة للأفكار والشعارات، ويفتح لها الطريق لتستقر في عقله اللاواعي، من دون تفكير ونقاش على قواعد ومعايير العدل والمنطق والايمان بالتنوع والاختلاف، متجنبا إرهاق التفكير بالبحث في صحة وسلامة هذه الأفكار والشعارات، لطرح ماهو مضر وغير منطقي وغير عادل، إنما يقامر بمنح عقله عن طيب خاطر للتعصب، ولن يكون سوى مطية وأداة لمن يستخدمونه؛ إذ لا يسع من يقبل راضيا مصادرة حقه في التفكير والكلام بحرية، إلا التحول إلى ببغاء ينطق ما لُقن من كلمات وعبارات لا يدرك حتى معانيها، وتصبح الجموع وهي تَلُوك هذه الأفكار والشعارات كجدران مسندة تردد الصدى.

“بروكنجز” للدراسات: الصين تعدّ الوفاق شريكا جذابا، ولا تسعى للتورط في دعم أي صراع في ليبيا

تسجيل الأدوية الجديدة: مشوار طويل من المختبر إلى سرير المريض