“الرغبة الجامحة بتنصير المسلمين وإبعاد حدود الإسلام كانت أهم الدوافع لغزو البلدان الإسلامية بالشمال الأفريقي، والكلمة التي نجدها معبرة هنا هي كلمة صليبية”
فرناند بروديل
يصف الإسبان عام 1492 بالعام الرائع، في ثاني أيامه تسلم الزوج الملكي فردناند وإيسابيلا مفاتيح غرناطة آخر معاقل الإسلام بالأندلس، وفي 12 أكتوبر بلغ كريستوف كولومبس جزيرة سان سلفادور مدشنا بذلك عصر إبادة الهنود الحمر، وتدمير حضاراتهم ونهب ثرواتهم على يد الغزاة البيض، وفيما أخذت البلاد تتهيأ للزمن الإمبراطوري المقبل مع الثروات الهائلة القادمة عبر الأطلسي، وتجهيز حملة صليبية لإعادة الكرة على المسلمين في الضفة الأخرى من المتوسط، كانت عمليات طرد آخر المسلمين واليهود من الأندلس على أشدها بتحريض من الكنيسة الكاثوليكية، فقد دعا البابا إسكندر السادس البلاد المسيحية إلى تركيز الجهود على إبعاد المسلمين عن الأندلس، وإخضاع شمال أفريقيا للحكم المسيحي والديانة المسيحية.
وهكذا اندفع الملك الكاثوليكي المتعصب فردناند وزوجته الملكة ايسابيلا الأشد تعصبا لغزو الساحل المغاربي لتبدأ معالم إمبراطورية كاثوليكية في التشكل بالجانب الغربي للمتوسط.
على الجانب الآخر بزغت إمبراطورية إسلامية أثارت الرعب في أوربا بفتحها القسطنطينية وتوغلها في شرق أوربا، وكانت مسيرة ظافرة عطلتها تحديات خطيرة في جبهات أخرى، إذ اضطرت جيوش العثمانيين لقطع الفتوحات في أوروبا والعودة لقتال جيوش الدولة الصفوية الشيعية المتحفزة للانقضاض والتهام أراضي العثمانيين.
وفي عدائهم للدولة العثمانية السنية تحالف الصفويون مع البرتغاليين، وقدموا لهم التسهيلات في موانئ الخليج العربي، كما كانت لهم سفارات ومراسلات مع البابا وبعض ملوك أوربا؛ لتنسيق الجهود في مواجهة العثمانيين، فالعداء بين مذاهب الدين الواحد أشد من العداء للأديان المغايرة، فقد فضل اليونانيون الأرثوذكس البقاء تحت رعاية الدولة العثمانية الإسلامية على اللجوء للممالك الكاثوليكية في غرب ووسط أوربا، ورحب البروتستانت بمساعدة العثمانيين في صراعهم مع الكاثوليك. وفي عصرنا تتحالف السعودية السنية مع إسرائيل اليهودية ضد إيران الشيعية، ولم تلجأ حركة حماس السنية لطلب الدعم من إيران إلا لخذلانها من حكام الدول العربية السنية، من دون تجاهل الدور الذي تلعبه أمريكا في تأجيج الصراع المذهبي الإسلامي.
هل كان الدخول العثماني للشمال الأفريقي احتلال؟
صدام العثمانيين مع الإسبان كان حتميا؛ لحماية البلدان الإسلامية من غزو صليبي محمل بتجربة الأندلس، ماضيا في نهجه الاستئصالي الحاقد على كل الأديان، وقد اصطفت شعوب المنطقة مع العثمانيين؛ لدفع الصليبيين الهمج ماعدا أقلية من العملاء ربطت مصالحها بالعدو، وهؤلاء موجودون في كل العصور، على أن بعض هذه الأقلية فقدت القدرة على التمييز بين قريب يشاطرنا نفس التكوين الحضاري وعدو سافر العداء، ومن ثم فانحيازها للعدو ليس بالضرورة لأجل منفعة عابرة، بل هي عمالة مجانية ناتجة عن اختلال الوعي.
فنحن نرى اليوم من بني جلدتنا من يقاتل أهل بلده جنباً إلى جنب مع عصابات الفاغنر، ونسمع ونرى من ينكر مشاركتهم في قتل أبناء وطنه، وحتى مع اعتراف الرئيس الروسي مايزال يطالب بالدليل على وجودهم.
أما العلمانيون المتعصبون ضد كل ماهو إسلامي فمازالوا يعتبرون أي حراك سياسي بمرجعية إسلامية هو الخطر الوحيد على الكرة الأرضية، وقادهم تعصبهم للاصطفاف مع المجرمين القتلة، وتبرير جرائمهم بذريعة أنهم يكافحون الإرهاب، ولم تأخذهم رأفة أو عاطفة بالمستضعفين في طرابلس، وهي تحاصر وتدمر على يد همج منحهم مجلس الأمن الدولي الإذن بحرقها، مدججون بالعقد الجهوية والأكاذيب، يجترون أوهام استعاراتهم بقصور في بصر من رفضوا حرق طرابلس؛ لأنهم يرون الشجرة ولايرون الغابة.
نعود لصلب الموضوع، الغزو العسكري لم يقع، لم يحشد العثمانيون الجيوش ويجتاحوا الساحل الأفريقي، ولم تقع حروب بينهم وبين سكان البلاد الأصليين، وإنما كانت معاركهم مع العدو الصليبي حتى تمكنوا من طرده، ودانت البلدان لهم، ولم أصادف في كل المصادر التي قدر لي مطالعتها مؤرخاً معاصراً للعثمانيين أو قريب العهد من زمنهم، يصف حضورهم في البلاد العربية بالاحتلال أو الاستعمار، بينما ألحق هذا الوصف بالبرتغاليين والأسبان وفرسان مالطا.
وبالنظر للدافع الرئيس للغزو الإسباني الصليبي، ماهو المتوقع إذا لم يتدخل العثمانيون؟
الإجابة يمكن مطالعتها في تجربة الأندلس، تنصير السكان أو طردهم وملء البلاد بالنصاري، فالكنيسة على يقين من مسيحية شمال أفريقيا قبل أن تتعرض للغزو العربي، ومن ثم وجب طرد العرب واستعادتها، أما مصير شعوبها فلن يختلف عن مصير الهنود الحمر وقد لخصه هرنان كورتيس قائد الحملة الإسبانية على المكسيك وهو يشرف على المذابح المروعة للهنود الحمر: “ستعبدون إلها غير آلهتكم، وتدينون بالطاعة لعاهل لم تروه، سنسلبكم خيراتكم، ونسبي نساءكم”.
أما على جهة الطريقة التي اعتمدها العثمانيون في حكمهم، فقد كانت قاسية مليئة بالجور والظلم، إذ أرهقوا الناس بالضرائب، ولم يهتموا بالبناء والتعمير إلا قليلاً، ولذلك اندلعت ضدهم الثورات التي قمعوها بقسوة، فالشيخ المؤرخ الطاهر الزاوي يعتبر الحكم العثماني في ليبيا “عهدا أسود استمر 360 سنة عانت فيها طرابلس من الفقر والجهل والذل والفوضى”، ومرد ذلك إلى الركود الذي عرفت به الإمبراطوريات الآسيوية ونمط الإنتاج الإقطاعي العسكري السائد آنذاك، والذي كرسوه في أغلب الولايات، حيث أحكمت طبقة المحاربين الانكشارية يدها على السلطة بسيطرتها على الولاة، وهي طبقة لاحظ لها من المعرفة بشؤون الحكم والإدارة، ومن أجل امتيازاتها فرضت الضرائب الباهظة على الأهالي من دون تقديم مايوازيها من خدمات.
وبسبب بعد المسافة عن عاصمة الإمبراطورية تعرضت إيالة طرابلس للإهمال، ولما دب الفساد في مركز الحكم بإسطنبول وصارت المناصب تباع في المزاد العلني، بات همّ الولاة الذين يفوزون بحكم ولاية طرابلس جمع أقصى مابوسعهم من ثروات البلد قبل عزلهم، فزادت معاناة الناس واستفحل الظلم، ولكي نتجنب التعميم فقد حاول عدد قليل منهم الإهتمام بالولاية بإجراء بعض الإصلاحات وتنظيم الأسواق والتخفيف عن الناس بتخفيض الضرائب.
تجهيز الجيوش والغزو والتوسع كان هو الشاغل الأساس للامبراطورية فأهملت الجوانب الأخرى، ولم تستجب كما ينبغي للتطورات الحضارية التي بدأت مع عصر النهضة في المدن الإيطالية، وعلى سبيل المثال رفض السلاطين دخول المطبعة لولايات الإمبراطورية إلا بعد نحو قرنين من اختراعها على يد جوتنبرج، ولنا أن نتصور الثورة المعرفية في أوروبا بفضل هذا الاختراع ذلك العصر، بالمقارنة مع نتائج ثورة الاتصالات في عصرنا، لذلك يتحمل العثمانيون النصيب الأبرز من المسؤولية عن حالة التخلف في البلدان العربية التي خضعت لحكمهم.
قرابة ستة قرون استمرت الإمبراطورية العثمانية، وهو زمن غير عادي بالنسبة للامبراطوريات، قارعت فيها أعتى دول الشرق والغرب، وحافظت على تفوقها زهاء قرنين، وشكلت تهديداً غير مسبوق للأوربيين، قبل أن تبدأ رحلة السقوط والاضمحلال، فمثلما هناك ولادة وذروة هناك أيضا انحدار ونهاية للدول مهما بلغت عظمتها، إذ يسري عليها ما يسري على كل الكائنات.
هل نعيش اليوم عودة الزمن الإمبراطوري والصدام الحضاري؟ وهل نرى الهلال يواجه الصليب مرة أخرى؟
التحولات التي تجري الآن في شرق المتوسط تبدو وكأنها استعادة لتاريخ غابر، وإذا كان الصراع في ظاهره اقتصادي حول مصادر الطاقة في البحر وتعزيز النفوذ السياسي، فالتناقض الحضاري هو باطنه. فالجدل حول عودة آيا صوفيا كمسجد مشابه لما حدث عند فتح القسطنطينية عام1453، حزن واحتجاج وفزع في الغرب، بلغ ذروته في اليونان برفع علم بيزنطة وإقامة الصلوات من أجل إنقاذ آيا صوفيا، بينما مظاهر البهجة والفرح يعمان العالم الإسلامي، ولعل الرسالة في توقيت الافتتاح ساطعة الوضوح، ففي 24 يوليو 1923 فرضت بريطانيا وفرنسا على تركيا معاهدة لوزان وبموجبها تم تفكيك دولة الخلافة العثمانية، وأعيد تشكيل المنطقة وفق قواعد وخرائط جديدة.
يؤكد المؤرخ توينبي على النظر للتاريخ من زاوية الحضارات، فالدول حالات طارئة تولد وتموت في إطارها الحضاري، وعلى النهج نفسه يمضي المفكر السياسي هنتنغتون، ففي كتابه الخطير (صدام الحضارات) الصادر عام 1996 يرى أن الصراعات المقبلة ستحددها التناقضات الحضارية، معتبرا أن لكل الحضارات دولة مركز تلعب دور القطب لمحيطها الحضاري، الصين (الكونفوشسية)، الهند(الهندوسية)، روسيا(الارثوذكسية)، أمريكا(الكاثوليكية. البروتستانتية)، بينما تفتقد الحضارة الإسلامية لدولة مركز، ويرشح تركيا لهذا الدور بشرط أن تتخلى عن إرث أتاتورك وأن تجتمع لقيادتها الشرعية السياسية والدينية، فهل استدارة تركيا شرقاً والعودة لمجال نفوذها العثماني بعد فشلها في نيل عضوية الاتحاد الأوروبي يثبت صحة قراءة هنتنغتون للمستقبل أم أن نظريته تحولت إلى أجندة للسياسة الأمريكية؟ ونأخذ هنا بعين الاعتبار عضوية تركيا في حلف الناتو وارتباطها اقتصادياً مع منظومة الاقتصاد الرأسمالي.
عبدالله الكبير