خلال الأسابيع الماضية صعد الوضع في ليبيا مرة أخرى إلى واجهة الأحداث. البلد الذي يشهد موجات متصاعدة من العنف والاحتراب منذ رحيل القذافي، بدا وكأنه يتأهب لدخول مرحلة جديدة من إعادة الترتيب السياسي، بعد استعادة حكومة الوفاق لأهم الأراضي التي كانت خارجة عن سيطرتها.
مع هذه التطورات يبرز سؤال حول تأثير ذلك في المقاتلين السودانيين الموجودين على الأرض الليبية، وعن الأسباب التي دفعتهم بالأساس للاشتراك في تلك الحرب.
إجابة هذا السؤال تتطلب إلماما بالوضع السياسي السوداني، الذي لا يقل تعقيدا عن الوضع الليبي، خاصة لجهة الاحتقان والتنازع المناطقي.
شهد السودان حروبا أهلية في مناطق مختلفة، منذ أواسط القرن الماضي، كانت على رأسها الحرب التي سعت لتثبيت سيطرة المركز على الأقاليم الجنوبية، والتي انتهت في عام 2005، إثر اتفاق السلام الذي مهد لفصل الجنوب في عام 2011، في وقت كانت تستعر فيه حرب أخرى في منطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، إلى جانب صراع آخر في منطقة دارفور.
دارفور التي تقع في غرب السودان، اكتسبت شهرة وصدى عالميا أكبر، مع اتهام حكومة المركز بتأجيج الصراع والوقوف مع أطراف ضد أخرى، ما طوّر الأزمة من مجرد منافسة قبَلية على المرعى والمزروعات، إلى حرب حقيقية بجنود مدربين وأسلحة متقدمة والكثير من الضحايا. خطورة أزمة دافور، التي استفحلت مع السنين، مؤدية لنشوء حركات مسلحة تناصب العداء للدولة، وتلقى الدعم من جهات عديدة، لم يكن في تأثيرها في الوضع في الخرطوم، فبخلاف ما سمي بعملية «الذراع الطويلة»، التي حاول فيها أحد المتمردين إسقاط الخرطوم في 2008، ونظرا لمساحة السودان الشاسعة، فإن الأزمة لم تكن ذات تأثير يذكر في الوضع السياسي والأمني العام، إلا في ما يتعلق بالإجراءات التي حدت من حركة الرئيس البشير، بعد إعلانه كمتهم دولي بجرائم ضد الإنسانية، لكن الخطورة الحقيقية كانت تتعدى ذلك كله للجوار الإقليمي، فهناك ارتباطات لا يمكن تجاهلها بين إقليم غرب السودان، وكل الدول المتاخمة التي تشترك معه في القبائل الحدودية والثقافة.
من أجل إضعاف المجموعات المقاتلة، التي انتقلت من خانة الصراع القبلي لخانة إعلان الحرب على الدولة، سعت الحكومة السودانية لتطبيع العلاقة مع تشاد، كما مع دولة جنوب السودان، التي كانت العلاقة معها تتراوح ما بين التوتر والترقب، الأمر الذي كان يتسبب في دعم الأخيرة للقوات المتمردة نكاية بحكومة الخرطوم. بعد ذلك التطبيع والاتفاق على تنسيق حدودي أمني بين السودان وتشاد، بدا وكأن تلك المجموعات المسلحة قد حشرت في الزاوية.
استخدم النظام السوداني السابق أيضا، استراتيجية تفكيك وتطويق هذه المجموعات، عبر عروض سخية بالمشاركة في السلطة، مع توفير حوافز مالية مختلفة. تسبب ذلك في انشقاق كثير من هذه المجموعات وانضمامها لخريطة السلطة، إما قناعة بإمكانية إحداث تغيير، عبر المشاركة في اتخاذ القرار، أو لمجرد الطمع في بريق الحوافز المغرية.
من قادة هذه المجموعات من تقلد مناصب رفيعة في الدولة لبعض الوقت، قبل أن يعود مرة أخرى للتمرد، معتبرا أن تهميشه قد تواصل، حتى مع تقلده لتلك المناصب. مع هذا الوضع فإن المجموعات التي ظلت متمسكة بالخيار العسكري، لم يكن قد تبقى لها من متنفس استراتيجي إلا عبر الساحة الليبية، التي كانت قد بدأت تعاني من توترات عسكرية أكثر ضراوة من التوترات السودانية، إذ لم يقتصر الأمر هناك على إقليم واحد، أو على بقعة جغرافية محددة، بل اتسع ليشمل مساحات جغرافية ممتدة وصلت حتى محيط العاصمة طرابلس.
تمدد المقاتلين السودانيين إلى داخل الحدود الليبية، كان قد بدأ في مرحلة سابقة لسقوط القذافي، وقد ظهر دورهم، حينما شاركت مجموعات منهم كمرتزقة ضمن القوات الأفريقية، التي استدعاها «القائد» حماية لنظامه، بعد أن اقتربت ساعة سقوطه. كان لتلك المشاركة ثمن غال، حيث شوهت سمعة الجالية السودانية الكبيرة التي كانت تقيم في ليبيا، وعرّضت الكثير من الأبرياء لأنواع شتى من الانتقام، والنعت بإذيال القذافي، خلال أيام الثورة وبعد نجاحها.
أدى عاملان لتمدد حركات المعارضة المسلحة السودانية وتعزيز قوتها: العامل الأول كان الطبيعة العلمانية لغالب هذه الحركات، وهو ما وفر لها غطاء دوليا سمح بغض النظر عن انتهاكاتها والتجاوز عن الأعمال غير الشرعية العابرة للحدود، التي كانت تشارك فيها، من قبيل تسليح الأطفال وتهريب البشر والاتجار بالمخدرات وغيرها، فبالنسبة لمتخذي القرار العالمي، طالما كان المقاتلون لا يظهرون هوية إسلامية، ولا ينسقون مع حركات موصومة بالإرهاب فلا مشكلة. أما العامل الثاني فهو استخدام هذه المجموعات من أجل الضغط على نظام البشير، الذي كان يصنّف إسلاميا ومعاديا للغرب، والسعي لإضعافه عبر إشغاله بعدد من الجبهات المفتوحة.
كان من اللافت حينما بدأت خسائر الجنرال حفتر الاستراتيجية، تصريح ياسر عرمان، الذي ندد فيه بقوة بالتدخل العسكري التركي في ليبيا، محذرا من خطورته على المنطقة. تناقل السياسيون والناشطون تصريح عرمان باهتمام، حيث بدا أن الرجل الذي بدأ نضاله السياسي متحالفا مع الزعيم الجنوبي جون قرنق، ضمن «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بدا أنه صار يتحدث باسم مشروع أكبر، فقد أبان في تصريحه أنه ضد ما سماه «المحور التركي» وهو تعبير يوضح إلى أي فريق يمكن أن ينتمي، وأن يقاتل هو ورفاقه على المستوى الإقليمي.
من جهة أخرى رشحت خلال الفترة الماضية أنباء عن مشاركة «قوات الدعم السريع» التي تتبع الفريق محمد حمدان دقلو، إلى جانب قوات حفتر. فسر محللون ذلك بالطمع في الحصول على الدعم المالي للحكومة الانتقالية، التي يشغل فيها دقلو حاليا منصب نائب المجلس السيادي ومسؤول الآلية الاقتصادية. نفى دقلو ذلك أكثر من مرة، مؤكدا على عدم وجود أي فرد من قواته على الساحة الليبية، ومؤكدا على أن السودان لن يتدخل إلا على سبيل التوسط لتقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية.
تلقى معظم السودانيين ذلك النفي بارتياح، فأي مشاركة لقوات الدعم السريع لم تكن تعني فقط توريطا لتلك القوات، ولكن أيضا لمجمل البلاد، ضمن لعبة محاور خطيرة وغير مأمونة العواقب. في مقابل ذلك أكدت مصادر أخرى مشاركة قوات تابعة لزعيم الجناح الآخر في الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو، إلى جانب الجنرال حفتر. الحلو الذي يطمح للعب دور سياسي مهم في مستقبل العملية السياسية، لا يهدف فقط لتلقي الدعم المالي، ولكنه يطمح أيضا في الدعم السياسي الذي يحتاجه من أجل الضغط على الحكومة السودانية للقبول باشتراطاته لتحقيق السلام. اشتراطات على رأسها فصل الدين عن الدولة، وإعادة هيكلة القوى الأمنية، وطرح خيار الانفصال. فصيل الحلو ليس الوحيد بطبيعة الحال الذي يبحث عن تعزيز خياراته عبر اكتساب أدوار إقليمية من خلال الساحة الليبية.
باستحضار كل ذلك سوف يكون تفسير وجود عناصر سودانية في المعترك الليبي مفهوما، أما اعتبار أن هذا التواجد هو امتداد لوجود المقاتلين المرتزقة، الذين ظلوا على الدوام تحت الطلب، من الذين لا خيار لهم سوى الارتماء في كنف الداعمين ففيه كثير من التبسيط، لأن الأمر هذه المرة أكثر خطورة بكثير، ويتعلق بصراعات إقليمية أوسع حول العروش والنفوذ.
المصدر: القدس العربي