قبل عدة شهور لا أحد توقع هذا السيناريو أن يصاب العالم بالشلل بسبب جائحة كورونا، فتنهار الشركات والبورصات، وتستقر آلاف الطائرات في المطارات، وتقفل المدارس والجامعات والأسواق والمطاعم والفنادق، ويفقد الملايين وظائفهم، وتتعطل تفاصيل الحياة الاعتيادية لكل الناس في كافة أرجاء المعمورة، يلزم الغالبية بيوتهم خوفا من عدو غير مرئي ينتظرهم في أماكن مسراتهم و بهجتهم. المقاهي، الحانات، السينما، ملاعب الرياضة، المعالم السياحية، وغيرها. مختبأ في مقبض باب أو على زر مصعد أو حافة فنجان قهوة، متربصا بضحيته ليتسلل إلى رئتيها فتبزغ فيه الحياة ويأخذ في التكاثر ليوهنها مرضا وقد يودي بحياتها.
المسبب لكل هذا الانهيار والتغيير كائن شديد الضآلة لا يرى إلا بالمجهر الإلكتروني، يقبع في المسافة القصيرة بين الموت والحياة، ولعل أفضل وصف له جاء على لسان العالم الراحل مصطفى محمود الذي شبه الفيروس بدراكيولا، الشخصية الأسطورية التي ظهرت في الأفلام السينمائية على هيئة رجل يبدو كالميت في تابوت خشبي بالنهار، حتى إذا أرخى الليل سدوله وحل الظلام دبت فيه الحياة وغادره ليبدأ في مطاردة ضحاياه ليمتص دماءهم وينقل لهم العدوى، وتتحول ضحيته إلى نسخة جديدة منه تسعى هي أيضا إلى البحث عن ضحايا تمتص دماءهم.
جائحة كورونا كانت متوقعة فقد حذر منها العلماء منذ سنوات، ولكن تحذيراتهم لم تلق آذانا صاغية من صناع القرار في الدول الكبرى، شغلتهم مطاردة أرقام النمو الاقتصادي ومراكمة أرباح الشركات لامتلاك أسباب القوة عن الاستعداد لمواجهة عدو شديد الفتك.
في كتاب (الفيض. أمراض الحيوانات المعدية وجائحة الوباء التالية بين البشر) للكاتب ديفيد كوامن الصادر في أمريكا عام 2012، وردت في نسخته العربية الفقرة
التالية: « على أن بعض العلماء يخشون أن جائحة الوباء التالي التي تهدد العالم قد تنبثق عن فيروس معروف ولكنه يكمن في عائل خازن متربصا لوجود الظروف اللازمة لانتشاره وانتقال العدوى للإنسان. مثال ذلك فيروس كورونا (الإكليل). سمي هذا الفيروس بالكورونا او الإكليل لأن المشهد تحت الميكروسكوب تبدو فيه جسيمات الفيروس وقد أحاطت بها نتوءات مستديرة بارزة كأنها إكليل». الكتاب رحلة شيقة وممتعة في تعقب الفيروسات والجراثيم عبر كل القارات، ترجمه للعربية الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي وصدر بالكويت في جزئين عام 2014 عن سلسلة عالم المعرفة.
عدد من القادة وصف أزمة كورونا بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، والمقارنة بالحرب العالمية الثانية صحيحة في عدة جوانب، فالتحدي الذي تتعرض له بعض الدول الكبرى يشبه حالها إبان تلك الحرب، حتى لو كان النصر هو الجائزة الكبرى في النهاية فالخسائر مروعة، ربما الاختلاف هو أن تلك الحرب كان العدو فيها واضحا، وبالإمكان معرفة قدراته وتحركاته وخططه وخطواته المقبلة وردود أفعاله، بينما العدو الحالي يكاد يكون مجهولا فما نعرفه عن طفرته الحالية محدود جدا، وما يزال أمام البشرية بكل إمكانياتها العلمية والمعرفية مسافة طويلة حتى تحيط علما بكل خصائصه وطفراته وتحولاته، ليتسنى صنع اللقاح للسيطرة عليه والعلاج الملائم له، والحروب العسكرية صاخبة يعلو فيها الصراخ والعويل وزمجرة المدافع والقنابل، أما هذه الحرب فكل أصواتها خاشعة، المدن يغشاها السكون والشوارع يلفها الصمت، ولم تحرم الحروب الاعتيادية الناس من التضامن والمساندة وممارسة طقوس الموت بكل جلالها ومهابتها، ولكن حرب الكورونا تفرض التباعد والعزلة ودفن الموتى من دون إلقاء النظرة الأخيرة عليهم.
كل السلوكيات وأنماط العيش المألوفة ذهبت مع الماضي، فكورونا يعيد صياغة الحياة، ويرسم خطوط خرائطها، التصافح والعناق بات من المحرمات، التحرز من العدوى يفرض التباعد بمسافة مترين عن الآخر، صار لزاما أن نستعيد العبارة القاسية للفيلسوف الفرنسي سارتر «الجحيم هم الآخرون»، وسوف يغيظك أن تقرأ في عيون الآخرين وهم يتحاشونك: أنت موبوء محتمل يستحسن الابتعاد عنه، بينما يحاول بعضهم تبديد هذه الشكوك بابتسامة وتحية. يعود الإنسان وحيدا يلتحف بالعزلة، بلا دفء المشاعر الحميمة من الأصدقاء والخلان و الأقرباء، كل ما ينبغي إنجازه في العمل أو الدراسة أو التسوق لابد أن يتم عن بعد، ومن دون أن نعرف متى ستنتهي هذه الأحوال الطارئة وتعود الحياة إلى مساراتها المألوفة؟، سنبقى نكابد مشقة الانتظار، و لكنه ليس من صنف الانتظارات المعتادة، إذ لاندري متى وكيف ستكون عودتنا؟ وما هو شكل العالم بعد أن يفتح لنا أبوابه من جديد؟ وما حجم الفراغات التي خلفها الراحلون؟ وماذا عن الرماد بعد هذا الحريق الهائل؟ أو كما قال الشاعر الراحل محمود درويش «في الانتظار يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة».