استقالة غسان سلامة المفاجئة من مهامه ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة ورئيساً لبعثتها في ليبيا جعل العملية السياسية تدخل في سباتٍ جديد بعد حالة النشاط المحموم الذي شهدته منذ توقيع المجلس الرئاسي مذكرتيْ التفاهم مع تركيا، هذا النشاط أفرز مخرجات برلين التي ضُمّنت في قرار مجلس الأمن المعني بليبيا رقم (2510) والذي ابتدأه سلامة ضمن مسارات الحوار الثلاثة، ثُمّ آثر الانسحاب متذرّعاً بصحّته بعد أن أيقن -فيما يبدو- انعدام الدعم الجادّ له من الدول المعنية بليبيا لإنجاح هذه المرحلة الحساسة لإنعاش العملية السياسية.
خروج غسان سلامة من المشهد كانت نتيجته تجميد تحركات البعثة السياسية إلى حين تسمية مبعوث أممي جديد، وهو ما يعني توفّر مساحة للتحرك الدولي المنفرد تُجاه ليبيا، كما يعني أن الفرصة مواتية للمجلس الرئاسي كي يتحرك تجاه الأطراف الدولية لتغيير مواقفها وبناء شراكات استراتيجية معها تسهم في دعم معركة الدفاع عن مدنية الدولة، خاصةً أن حفتر أصبح يعاني من حالة جمود عسكري تجعله يبحث عن مساومات أخرى، والتي يبدو أنها محدودة في ظل خطابه التصعيدي الذي يوجهه لأنصاره ومؤيديه.
المجلس الرئاسي كان من المفترض أن يتحرّك بشكل نشِط وفعّال ضمن هذا السياق، لكنه آثَر حالة الخمول وانتظار الفعل الدولي ليتحرك وفقاً له، بدل أن يكون مبادراً ويسعى لخلق أدوات تعطيه نقاط قوّة أكبر في المعركة التي يخوضها، ويبدو أن الحوار الذي السياسي الذي ستكون إحدى نتائجه تعديل المجلس الرئاسي قد أخمدت فيه جذوة المقاومة وجعلت قيادته لمعركة الدفاع عن مدنية الدولة تتراجع إلى أدنى مستوياتها، بل إن الحكومة بصفة عامة تعاني من أداءٍ هزيل وضعيف لا يتناسب مع الأزمات والمختنقات التي تواجهها.
ولعل أبرز ما عكس سوء هذا الأداء تأخر معالجة المجلس الرئاسي لتداعيات الإغلاق النفطي الذي أربك اعتماد الترتيبات المالية، وجعل محافظ المصرف المركزي يمارس نوعاً من الابتزاز السياسي للمجلس الرئاسي ليزيدَ من معاناة المواطن في ظل أزمات تتلاحق وتتكاثر على كاهله المثقَل بسابقاتها، ولم تكد الأجسام السياسية والسيادية تتوافق على الترتيبات المالية حتى وصلت تداعيات وباء كورونا إلى ليبيا لتُظهر مدى الضعف في المؤسسة الصحية وقلة الإمكانات لاحتواء الأزمة، كما أن هذه الأزمات جعلت تركيز المجلس الرئاسي على المعركة الدائرة جنوب العاصمة شبه غائبٍ رغم الصواريخ التي تمطُر بها عصابات حفتر أحياء طرابلس ومنازل سكانها كل يومٍ تقريباً.
هذه الانتهاكات التي أودت بحياة مدنيين أبرياء ودمّرت منازل وممتلكات الكثيرين وفاقمت من أزمة النزوح، كان ينبغي أن يُردّ عليها بتحرّكٍ عسكريٍّ يُبعُد مدى مدفعية عصابات حفتر عن أحياء العاصمة ويؤمّنها من ويلاتها، وهو حق مشروع في ظل إصرار آلة حفتر على التدمير والتنكيل.
أداء المجلس الرئاسي يعكس غياب الرؤية السياسية الواضحة في التعامل مع واقعه، وهو ما يجعل أي طرف دولي يتعامل بحذر مع المجلس الرئاسي ويتردد في دعمه؛ لأنه لم يثبت إلى الآن بأنه شريك موثوق وقادر على قيادة المرحلة، بل إن تحرّكات وزير الداخلية الأخيرة، والتي تهدف إلى اختراق الدول الداعمة لحفتر واستمالتها أو تعديل مواقفها – هذه التحركات لم تحظَ بالدعم والمساندة الكافية من المجلس الرئاسي، بل إن رئيس المجلس الرئاسي لم يُبدِ أي دعمٍ أو مساندة لجهود بناء المؤسسة الأمنية التي لازالت تُحارب ويرفضها كثير ممن استفاد من غيابها.
إن المجلس الرئاسي مطالبٌ أكثرَ من أي وقت مضى باتخاذ إصلاحاتٍ وإجراءات في حكومته ترفع من مستوى أدائها، ولعل في مقدمة هذه الإصلاحات تسمية وزير للدفاع، فانشغال رئيس المجلس الرئاسي بملفات أخرى تجعله عاجزاً على القيام بمهام هذه الوزارة، خاصةً وأننا على مشارف عامٍ من الحرب على العاصمة، كما أن البناء على جهود وزير الداخلية الأخيرة ودعمها دبلوماسياً من خلال فتح قنوات حوار وتواصل مع الدول المعنية بليبيا والسعي إلى بناء شراكات معها من شأنه أن يسهم في رسم خارطةٍ سياسية خاليةٍ من حفتر ومشروعه الاستبدادي.